رسالة الوطن إلينا في العام الجديد
 تاريخ النشر : الأحد ١ يناير ٢٠١٢
فوزية رشيد
* مرّ عام ٢٠١١ وكان يحمل في طياته الكثير من الصدمات ومن المفاجآت، من الاحباطات ومن الآمال، من الابتلاءات ومن الهدايا، من المحن ومن المنح، ولربما من دون الأعوام كلها التي خبرناها في طين هذا الوطن، وفي بحره وفي سمائه، كان هذا العام المنصرم عاماً لأخذ العبر والدروس بالجملة، وعاماً للمراجعة في الموقف من كثير من الأشياء، بينها مواقف سياسية وبينها مراجعات في مفاهيم كالصداقة والوطنية، وكيف حين يسمو الوطن فوق كل الأوجاع والمخاوف والهواجس، وحين يطل بوجهه نورانيا لنكتشف كأنه كم نحن نحب هذا الوطن، وأي قيمة ومعنى يحملهما أول مرة، إن هو تعرض لأي خطر، ولنكتشف أن طينته وحدها هي التي تُشكلنا، وتُحولنا، وتدفعنا لندرك الفوارق بين أزمة تدمرنا وأزمة تعيد صياغة كل شيء فينا، ليكون في النهاية صالحاً للإبقاء على سلامة هذا الوطن.
* ونحن ندخل العام الجديد، لا تهمنا النبوءات، ولا تزعزعنا تهديدات الأبناء الضالين وهم يعدون هذا الشعب المسالم بالمزيد من عنفهم وتخريبهم وإرهابهم، وندرك أن المحنة غيرت الجميع إلا هم، فقد بقوا في ذات المحطة «الفبرايرية» لا يريدون الترجل عن أحصنتها الخشبية، ولا عن منصتها التسقيطية، ولا عن خطاباتها التدميرية، ولا عن شعاراتها الضاربة في تسميم الأجواء وتقسيم الشعب.
وحدهم للغرابة متشبثون حتى اللحظة بذات المنطق من المظلومية، ومن المبالغات حتى تخوم الكذب الصريح، ووحدهم لاتزال وجوههم لم تغتسل بندى صباحات هذا الوطن، لا حمدا ولا شكرا، إنما المنابر ذاتها تستفيض في فعل الطأفنة والتحريض، وتستنجد بالتدخلات الخارجية، وهي تتغذى كل لحظة بجنون التقسيم بين معسكرين، وتتعشى بآفة المزيد من الأحقاد والضغائن والنيات المبيتة على تحويل مناسبات هذا الوطن، بل المناسبات الإنسانية العامة، إلى حفل من الضجيج والعنف والتخريب، دخولاً في الدهاليز السوداء للإرهاب.
* هذا العام الذي مضى علمنا الكثير، وشحذ إرادتنا الشعبية لكي نواجه المستحيلات.
أول درس تعلمناه أن الوطن لا يعادله شيء، وإن هو فلت من أيدينا ضعنا جميعاً في فلتانه، لذلك ولكي لا نجعله يفلت تجاوزنا حتى حدود الأرق والقلق والحزن، لنبتكر حدوداً جديدة ترسم للوطن ولنا ملامح الخلاص والثبات.
ثاني درس تعلمناه أن نفتح القلب بكل فضاءاته وآفاقه لكي نحافظ على هذا الوطن، فلا تتكرر فيه سيناريوهات التدمير والفوضى، كالتي أصابت أوطاناً أخرى وتاهت في فعل التشظي والانقسام وتسلط جهة على بقية الجهات، معارضات عربية غيّرت وجوها تحكمها ولم تتغيّر هي نفسها، بل بغتة أخرج بعضها أسوأ ما في الإنسان، بوازع الحقد والانتقام، تحت شعارات تتلون حسب الرغبة ولا صلة لها بأي طريقة لا بالثورة ولا بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان، وخير مثال لذلك ما حدث ويحدث في (ليبيا) وما حدث ويحدث في (العراق) وفضاءات أخرى لم تنته أدخنتها والضباب الذي يغطيها كالذي في (مصر) وفي (اليمن) وفي (سوريا) وفي (السودان) وفي (لبنان) وهلم جرا، ولا نستثني من الأدخنة والضباب بلدنا الحبيب.
* هذا العام الذي مضى علمنا كيف نواجه، وكيف نتحدى، وكيف نشحذ الإرادة، وكيف نستل الفرح من غياهب العنف والتخريب.
علمنا كيف نحبس الدمعة لأن الوطن في بكائه كان بحاجة إلى من يمسح دموعه.
علمنا كيف نتجاوز ذواتنا الخاصة، ومشاغلها، وآلامها الصغيرة والكبيرة، فالوطن لا ينتظر وهناك أيادٍ أرادت سحبه إلى الهاوية وإلى المجهول، واختطافه إلى فضاء غير فضائه الذي يدور في فلكه، ولاتزال مستمرة في غيّها.
هذا العام الذي مضى، علمنا كيف نقرأ الوجوه، كيف نراها بوضوح على الرغم من سماكة الأقنعة وتراتبها فوق بعضها بعضا.
علمنا كيف ندقق في الكلام وفي الشعارات وفي المفاهيم، كيف نميز الحقيقي بينها والزائف الذي يريد اختطاف وطننا بشيء من الكلام، وشيء من الصراخ، وكثير من الطائفية، ومزيد من الأحقاد والضغائن التي تدهن لسانها بمعسول الكلام حيناً، وحين لا تسيطر على نفسها يخرج السُم فضاحا من دون مواربة، ومن دون أن ننسى المعزوفات التسقيطية اليومية.
× هذا العام الذي مضى علمنا، كيف تتحول الصداقات إلى عداوات، وكيف تسقط الأقنعة، وكيف تهرول الوجوه في جحيم أحقادها، وكيف يتم تنفيذ الأجندات الخبيثة تحت شعارات الإصلاح والديمقراطية ونداءات (أحبتي).
علّمنا هذا العام الذي مضى، كيف يتم استلاب العقول والعبث بالأرواح، وكيف يتم تجنيد أطفالنا ونسائنا ومراهقينا في ساحات الضجيج والعنف والنار.
هذا العام الذي مضى، علّمنا كيف نهندس حياتنا ومشاعرنا وأفكارنا وخطط حياتنا الشخصية، لكي تنساق خلف فكرة واحدة: أن نحافظ على وطننا سليماً، بعيداً عن الفوضى التي تُراد له، وفارزاً لكل العابثين بمصيره، ومصير شعبنا.
* هذا العام الذي مضى علمنا كيف لا ننجرف بعيداً خلف الكلمات التي بإمكانها أن تدمر وطناً، وتسلبه من أمنه واستقراره ونمائه، فليست الديمقراطية عنفاً وتخريباً في الشارع، وليس الإصلاح استبداداً بالرأي الفئوي الواحد. وليست الحرية تدميراً للتعايش الأهلي والسلم الاجتماعي، وليست السلمية هي العبث بالكلمات المعسولة فيما النيران تشتعل على أرض الواقع. ولقد تعلمنا ألا يهمنا أن نربح الكلمات البراقة لنكتشف زيفها بعد أن يتم تخريب الوطن بها.
تعلمنا أن نحب على الرغم من الضغائن الموجهة إلينا، وأن نسامح بما يخصنا ولا نسامح بما يخص وطننا، بل نقف بالمرصاد لكل من يريد العبث به أو بعقولنا، وفي ذلك كله نعلن من أجل الوطن تمردنا المطلق على كل ما هو زائف وطائفي وعنصري، وتقسيمي، وتفتيتي، وولائه ليس للوطن، حتى آخر نقطة دم في عروقنا، ونقطة حبر في قلمنا، لن نجامل ولن نهادن ولن نساوم، ولن نسمح لأحد بأن يختطف عقولنا لكي يختطف بعدها هذا الوطن، الذي لا بديل .
.