الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٣٦ - الأحد ١ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٧ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


وعيُ التآمرِ في التاريخ الإسلامي





لا يستطيع الوعي الديني غيرُ المكتشفِ للواقع الموضوعي أن يعي أسبابَ المشكلات والأزمات، وسبل تشكيل طرق التحول، بسبب ارتباطهِ بالخوارق.

ولهذا فإن الكثيرَ من القدماء ربطوا وجود الشر وحصول المشكلات بالشياطين وغيرها من الكائنات المسئولة عن هذه الأمور الاجتماعية.

فبما أن الوجودَ مخلوقٌ من الإله فلا يمكن أن يتسرب إليه نقص أو شر حسب تصوراتهم، وهذه هي الثيمةُ الأساسيةُ لطابع الوعي الديني المحافظِ غيرِ القابل لفهمِ الحياة بشكل عميق، ولكن هناك أشكالا من الوعي الديني تركزُ في الأسباب وكيفية فهمها والسيطرة عليها، وليس إرجاع كل شيء إلى أمور خارج الواقع.

ولكن الثيمة الأولى الأساسية من الوعي الديني حاضرة خلال آلاف السنين، وهي الثيمةُ التي استندتْ إلى العفوية وغياب العلوم وغياب القراءات النقدية للإرث الخرافي المتغلغل في المادة الثقافية، وهذه الثيمةُ تعتمدُ على جهلِ الجمهور الذي لم يُعلَّم ولم يُدخل في إنتاج متطور خلال تلك الحقب، وتكرست فيه تفسيراتُ التآمر الخارجي، فمشكلات الزواج والنظام والعلاقات الاجتماعية تعود لتلك القوى المتربصة المتآمة، ولهذا نجد ان هزائم المسلمين وانهيار حضاراتهم المختلفة تعود لذلك التآمر حسب هذه الآراء، وحتى الآن مازال فشل أنظمة الاستبداد يُفسر بمؤامرات الغرب التي تُعطى الدور الغالب الكاسح فيما تُضمر عناصر الداخل الإسلامي السلبية ولا تظهر تحت المجهر التحليلي.

والغريب أن بعض المثقفين يروجون لمثل هذه الأفكار، وينشرونها عبر الكتابات الفكرية والسياسية والأدبية، وثمة أرضيةٌ كبيرةٌ في التراث العربي يرتكزون عليها وهي التي صنعتْ هذه الفزاعات الخيالية، كاعتبار عبدالله بن سبأ وراء الفتنة الكبرى والصراعات الدامية التي تتالت بعد ذلك على سبيل المثال.

وقد وُضع اليهود كنمطٍ عام أسطوري في إنتاجٍ مركزي لمثل هذه الخرافات الفكرية السياسية، وهو وضعٌ يبرئ الداخل المسئول الرئيسي من مشكلات الواقع وصراعاته وعدم قراءاته العميقة.

يقول مؤلفُ إحدى الروايات الصادرة مؤخراً على لسان شخصياته الإيجابية المسلمة:

(أما عن هذه الفرق فهي كثيرة، البعض منها معروف لدينا والبعض الآخر مجهول. ولكن ذُكر في أدبياتها أن لبعض هذه الفرق نجاحات باهرة، كسقوط الأندلس والخلافة العباسية؛ ومع غير المسلمين، سقوط الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا)، حكومة الظل، ص ١٥٩، الدار العربية للعلوم.

تتحول أحداثٌ تاريخيةٌ معقدة هنا كسقوط الخلافة العباسية إلى تآمر، فكللا أسبابِ التاريخ العميقة تُحذف، مثل فساد الارستقراطية الحاكمة وعدم وجود سياسات إصلاحية على مدى قرون، وغياب قوى عقلانية على مستويات الاقتصاد والفلسفة والعلوم، والحذفُ يقودُ إلى عروضٍ فنية وفكرية متخيَّلة سطحية، وتتحولُ لرموز على طريقة ابن سبأ وغيره من العفاريت الاجتماعية الشبحية.

وفي هذه الحالات يسهل تكوين أرجوازات فنية وشخصية تتحرك حسب خيوط الكاتب التي تشدلا كلَّ شيء، فيصبح مشروع شركة هواتف عربية مؤدياً لكشف شبكة تغتال علماء لأنهم عرفوا مؤامرة تمت في تركيا الإمبراطورية العثمانية واكتشفوا فيها تآمر يهود على هدم هذه الإمبراطورية(العظيمة) وعلى احتلال فلسطين.

يتم التصور هنا بأن الإمبراطورية العثمانية كانت جسداً قوياً لولا بعض المشكلات وأن الخليفة الأخير ليس سلبياً، لكن التآمر اليهودي الذي تجسد في تنظيم الاتحاد والترقي هو المسئول عن ذلك الانهيار التوحيدي لآخر بناء سياسي ربط المسلمين في أصقاع الدنيا!

هذه الأفكار صارت تُبعث وتتردد بقوة الآن مع تشكل فئات وسطى تحنلا لعودةِ الإمبراطورية وتقوية العلاقات التجارية والسياسية التركية العربية.

والأشكالُ السياسيةُ التوحيدية والمقارباتُ بين الأمم الإسلامية ليست مرفوضة بطبيعة الحال بل مطلوبة ولكن ليس من خلال وعي اسطوري.

إن قيام المؤلف بتحويل الأمم إلى كيانات صماء متراصة من الداخل، وتغييب صراعاتها الداخلية، هو مثلُ تحويلهِ الشخصيات والأحداث إلى خيوطٍ واهية، وإعتماد حبكة القتل البوليسية وسهولة تنفيذها وقدرة المجرمين على اختراق العصور والتأثير في هدم الإمبراطورية العثمانية ومنع تقدم المسلمين الراهن.

ودور مثل هذه الأفكار هي إنعاش الأسطرة وتجفيف وعي التاريخ من أبحاثه وموضوعيته، فلم ير المؤلفُ الإمبراطوريةَ العثمانية ككيانٍ إقطاعي متحلل فرضَ نمطاً من الخراج القاتل وجمدَ تطور المسلمين قرونا وسلمهم غنيمةً باردة للأمم الأوروبية الناهضة الباحثة عن مستعمرات ومواد خام، ثم جاء حزبُ الاتحاد والترقي التركي بأفكار إصلاحية مسطحة وقومية متعصبة، فعجل بذلك الانهيار.

مثل هذه الحبكات البوليسية توجد تشويقاً، وتتماشى مع وعي جمهور لايزال يعيش في مواد القرون السابقة، وعبر دور نشر تجارية تسوق هذه المخدرات الثقافية، للكسب والحصول على أكبر مبيعات ممكنة.

وهذا جانبٌ تحولَ إلى مشروعٍ هدفهُ تكريس الرؤى البوليسية والخرافات الدينية والأساطير الحديثة ودلالاتها السياسية السلبية، وغرس كل هذا في الجمهور العربي.

والغريب إن هذا التخريف يسوق عبر كلمات العلوم والحداثة، وكأنها مادة جديدة مع بعض الإبهار والتزويق والإثارة .



.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    الأعداد السابقة