قضايا و آراء
بين صيحة النصر التونسية
وحكمة الدهر الجزائرية
تاريخ النشر : الاثنين ٢ يناير ٢٠١٢
أيّاً كان تقييمنا للعام الراحل (2011)، فإن أحداً لا يستطيع أن يتجاهل الحيوية الهائلة التي تميّزت بها حوادث العام المنصرم خصوصاً بعد عقود من الركود القاتل واليأس المطبق من امكانية حصول تغيير في أوضاع الأمة وأحوالها، ولعل ما حدث في أسابيع وأشهر حمل في طيّاته حوادث عقود وربما قرون مستعيدين معه كلمة شهيرة للثائر البلشفي الكبير لينين : «قد تمر عقود من دون أن تقع فيها حوادث، وقد تأتي أسابيع وكأنها عقود لامتلائها بهذه الحوادث».
ورغم أن أحداً لا يستطيع أن يتجاهل خصوصية التطورات التي شهدها كل قطر من أقطارنا العربية، وبالتالي لا يستطيع الاستسلام لتقييم ذي بعد واحد لكل هذه التطورات، لكن أحداً أيضاً لا يستطيع أن ينكر أن عام 2011 هو عام الولادات على مستوى الأمة.
والولادات لا تأتي كلها في سياق واحد، فبعض الولادات مريح وسليم وصحي، فيما ولادات أخرى تكون متعسّرة مؤلمة وأحياناً متأخرة، بل ان بعضها يكون مشوهاً اذا لم تتوافر ظروف ملائمة للحمل، كما للولادة.
لكن الولادات دائماً تعبر عن حالة تجدد في حياة الناس، وهي كذلك في حياة الأمم، ومصير المولود تحدّده العناية الصحية والنفسية والغذائية والتربوية إلى حد كبير، فما من مولود يترك لحاله، وإذا لم تتوافر له الرعاية السليمة يصبح عالة على أهله ومجتمعه إلى حد كبير.
في حال امتنا العربية، هذه الولادات أثبتت ان شباب الأمة وشيبها، رجالها ونساءها، يمتلكون إرادة وشجاعة وتطلعات مشروعة لم يعد ممكناً تجاهلها أو سجنها، ولكن هذه الولادات قد كشفت في الوقت ذاته ان سنوات طويلة من القمع والعسف والإرهاب المنظم قد حرمت العديد من المجتمعات تراكماً في الخبرات السياسية لابد منه، ونضجاً في إدارة العلاقات لا يمكن تحقيق النجاح من دونه، بل قيادات ذات تجربة ودراية ومعرفة بتعقيدات الأوضاع تحصّن من خلالها برامجها وآليات عملها وسلامة أدائها وتسد كل ثغرة يمكن أن ينفذ من خلالها أعداء امتنا سواء بالمال أو بالإعلام أو بالتدخل المباشر أو بهذه الوسائل جميعاً فيعمدون إلى تشويه نمو الولادات ونقل المولود الجديد من حال إلى حالٍ معاكسة لها تماماً.
وإذا كان البعض من المحللين والمثقفين والسياسيين قد انتقل بين لحظة وأخرى من حال اليأس الكامل من أمتنا وجماهيرها وقدراتها إلى لحظة التمجيد والتطبيل والتعظيم لما حصل، من دون تدقيق أو تمحيص، فإن البعض الآخر رفض اليأس غير المبرر في لحظة معيّنة، ورفض الأمل الخادع في لحظة أخرى فهو يجد نفسه اليوم في مواجهة ثنائية جديدة خطرة تقوم إما على تعميم نموذج الثورات على كل الساحات، وإما توسيع دائرة الشك بها انطلاقاً من نموذج محدد.
وإذا كان البعض لا يستطيع أن يرى في كل ما يحصل أكثر من مؤامرة استعمارية - صهيونية متجاهلاً حقيقة مطالب مشروعة ومزمنة للمواطن العربي على امتداد الوطن الكبير، بل قافزاً فوق مشاهد ملايين المحتجين المستعدين لمواجهة الموت دفاعاً عن الحرية والكرامة والعدالة، بل إن البعض الآخر قد اندفع بالمقابل إلى استغلال هذه المطالب للاستدعاء شبه اليومي للتدخل الأجنبي في بلادها، متجاهلا ما قاله مجاهد جزائري عتيق لوفد معارض عربي ينتمي إلى جهة مازالت تطالب منذ تأسيسها بالحماية الدولية والتدخل الأجنبي.
قال يومها الشيخ الجزائري المجاهد: «أنا ابن ثورة قدمت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد لطرد الأجنبي المحتل وأعرف ان الثورات تقوم من اجل إخراج المحتلين من أوطانها، ولكن لم أسمع على مدى التاريخ، بثورة تستدعي الأجنبي ، محتلاً أو متدخلاً في بلادها».
وأضاف الشيخ المجاهد: «منذ عشرين عاماً والجزائريون في قتال أهلي مرير فيما بينهم، لكننا لم نسمع جزائرياً واحداً يطالب بالتدخل الأجنبي في بلاده، فما بالكم تقعون في فخاخ أعداء العرب والمسلمين؟ ألا ترون ما حل بليبيا والعراق والصومال وأفغانستان وصولاً إلى تقسيم السودان؟».
ولعل حكمة المجاهد الجزائري هذه في نهايات عام 2011، تكمل صيحة الكهل التونسي: هرمنا... هرمنا... ونحن ننتظر هذا اليوم، فالصيحة التونسية تحمل فرحة الانتصار على أنظمة الفساد والاستبداد والتبعية التي حكمتنا طويلاً، فيما تحمل الحكمة الجزائرية دعوة لتحصين الولادة الرائعة الجديدة لأمتنا من كل الشرور التي تهددها.
لقد كان عام 2011 عام الولادات في أمتنا، رغم كل آلام المخاض التي ترافق الولادات، ورغم كل المحاولات لتشويهها وحرفها عن مسارها، فليكن عام 2012 عاما لصون الروح التي أطلقت هذه الولادات ولحماية فكرة الكفاح ضد الاستبداد والفساد والتبعية من رياح المطامع الاستعمارية والفتن الأهلية والتفتيت المشتبه فيه.
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي