اضحك كثيرا..
وإليك الشرح
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٣ يناير ٢٠١٢
جعفر عباس
بيرني سيجل جراح أمريكي مرموق في مجال السرطان، وله مؤلفات تخاطب أمثالي من العوام الذين لا يفهمون المصطلحات الطبية، وكنت كلما تحدثت مع صديقي السعودي الراحل صالح العزاز عندما كان يعالج في مستشفى امريكي، من ورم في الدماغ أذكر الدكتور سيجل، فقد أدهش العزاز الأطباء بثباته وتماسكه، ورفض الانهزام أمام المرض، فرغم انه خضع لثلاث جراحات كانت اثنتان منها على درجة عالية من الخطورة، وخضع لعلاج كيميائي وإشعاعي، قال طبيبه ان فتى القصيم كان يتحلى بجلد نادر المثال، وأنه كان دائم الدعابة والمرح وان ذلك ساعده على هزيمة المرض لفترة طويلة جدا، شارحا أن آخرين عانوا من نفس تلك الأورام لم يصمدوا ولو عُشْر (١/١٠) المدة التي صمدها العزاز، وحتى عندما أدرك العزاز انه خسر معركته مع المرض تقبل ذلك بهدوء، وكان يداعبنا نحن كي يخفف عنا نحن محبيه حزن فراقه الوشيك، ويقول سيجل: ان اهتمام المريض بعافيته الروحية والنفسية يسهم إلى حد كبير في قهر السرطان، بمعنى ان الأمر لا يتعلق فقط بالاهتمام بالتغذية وتعاطي الأدوية بل بالتسلح بالتفاؤل وعدم فقدان الأمل، وتؤكد الاحصاءات ان السيدات اللواتي تم استئصال أثدائهن ويعبرن عن خوفهن وحزنهن بأصوات مسموعة تكون فرص شفائهن أعلى من اولئك اللواتي يكتمن مشاعرهن، بمعنى ان الفضفضة تريح الأعصاب، فالتعبير عن الخوف ليس دائما دليل جزع، فما من إنسان سوي إلا ويجزع لوقوع مصيبة، ولكن أن «تقطَّع الحزن في مصارينك» كما نقول في السودان عمن يخفي حاله وحالته، فذلك سوس ينخر فيك ويهد حيلك ويأكل عافيتك.. وفي مجلة متخصصة في شؤون الصحة والطب، قرأت خلاصة بحث جاء فيه ثبوت ان الضحك «من القلب»، يسهم في الشفاء من العديد من الأمراض العضوية، لان ذلك يؤدي إلى إفراز الاندورفين، وهو هرمون طبيعي يفرز في حالات الفرح ويمنح الشخص نظرة إيجابية متفائلة!! ومشكلتنا هي أن الضحك او الابتسام لا يمثل عنصرا ثابتا في حياتنا، أولا لأن الكثيرين منا يعتبرون العبوس والتجهم دليل جدية و«أهمية»، وثانيا لأنه ليس في حياتنا اليومية مبهجات كثيرة، ولأننا لا نتقن صناعة الفرح، ومعظم احتفالاتنا تقتصر على «الأكل». وقد تسنى لي حضور جلسات علاج بالموسيقى لمرضى نفسيين في مستشفى يحمل اسم عملاق الطب النفسي السوداني البروفيسور التجاني الماحي المدير الإقليمي السابق لهيئة الصحة العالمية في مدينة ام درمان، باشراف المغني الراحل عبدالعظيم عبدالله الشهير بـ «حركة» وكان خفيف الظل حلو اللسان، وأذكر انه كان يتوسط مجموعة من المرضى ويغني عندما اكتشف ان بعضهم نائم والبعض الآخر ساهم، فصاح فيهم: يا حيوانات هذه أغنية تحرك الصخر وأنتم لا تحسون بها، فانفجروا ضاحكين، وأوضح «حركة» ان الخبرة علمته ان المريض النفسي يرتاح كثيرا اذا ضحك من أعماقه، فكان من ثم يضحكهم عن طريق الصدمات فيقول لأحدهم مثلا: أنت ما عندك مرض،.. أنت محتجز في المستشفى لأن شكلك غير سياحي! فيضحك صاحبنا لأنه بالفعل قبيح التقاطيع، ولأن «حركة» برأه من المرض وأثبت دمامته، وسألت طبيبا نفسيا عن سر نجاح «حركة» في التعامل مع المرضى فقال: لأنه يعطي المرضى الإحساس بأنه منهم وهم منه، فلا يتعالى عليهم ولا يفرض وصاية عليهم ويعاملهم بندية.. ومات «حركة» في عز شبابه ولكن الكثيرين ممن أضحكهم وأطربهم في ذلك المستشفى يحفظون له الجميل بعد ان استردوا عافيتهم النفسية!
jafabbas١٩@gmail.com
.