الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


تآكل التحديثيين ونتائجه

تاريخ النشر : الثلاثاء ٣ يناير ٢٠١٢

عبدالله خليفة



ما الذي جعل دعاة النضال والنور ينطفئون؟ لماذا خرست ألسنتُهم وانطفأت مصابيحُهم وشحبت كلماتُهم أو غرقت في الظلام؟
وإذا نظروا نظروا إلى جهة واحدة كأن عيونهم ازورت وبصائرهم احولت؟
ما الذي جعل أصحاب الفولاذ سقيناه والحرس الفتي ورجل في أمة والشرارات و5 مارس وأمة تُبعث مجدداً ينطفئون وكأن الزحف العظيم الهادر بالقضاء على الفقر والظلم والاستغلال تبخر في الهواء وكأنه لم يكن بل تحول إلى كوابيس؟
لماذا جعلوا لوحاتهم ملأى بالألوان الرخيصة تندلق عليها براميل من المطر المعتم وقصصهم لا أبطال فيها ثم تموت في الأدراج التاريخية المقطوعة الألسنة؟ أين الهتاف بشعب واحد، وأمة واحدة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر؟
ليس هو عمى الألوان بل هو غياب الفهم، والمراهنة على البيروقراطية كي تحل كل مشكلات العاملين والحالمين، البيروقراطية الحمراء أو السوداء أو الخضراء، ورؤية أن من هو قرب البيروقراطية سيكون من الفائزين الغانمين، لكنه في الخلايا الفقيرة في الحارات والقرى سيتعرض للمعاناة والتجارب المريرة وسيظل يحلم بانتصار البيروقراطية، وأن من الساحات الحمراء والخضراء والسوداء سوف يأتي النصر.
لكن البيروقراطية في كل مكان تتخلى عن العاملين والتجار الصناعيين، والبيروقراطية تعرف لوائحها وموظفيها وغنائمها وغنهما، ولكنها لا تعرف سكان الحارات البسطاء الذين يكدحون من أجل لقمة العيش، وتنظيف الطرق من القمامات الكثيفة والدخان والأمراض وضحايا التعطل.
يقولون علينا بالتغلغل في البيروقراطية وتغيير الأنظمة من فوق، لكنهم مع السنين هم الذين تغيروا والبيروقراطية لم تتغير، بل اتسعت أملاكها، وهم الذين اندثرت أحلامُهم وتقلصت رؤاهم وصدأت سيوفُهم وتبخرت كلماتُهم (وتشخبت) لوحاتهم وبارت مسرحياتُهم، واختفت أشعارهم ونسخت بياناتُهم حتى غدت معروفة قبل أن تُذكر وتطبع ثم تلقى في سلال المهملات التاريخية.
ويفاجأون ويصدمون عبر هذه الذاكرات التي لا تحفظ شيئاً ولا تحفر في شيء، ويذهلون كيف أن الموظف الثائر تحول إلى لص؟! وكيف أن الساحة الخضراء حيث الجماهير موعودة بالجنان والسلطة الأبدية الحرة تغدو مكان اعدام المناضلين، ومركز شواء البشر والمدن والقرى؟
ومنذ زمن بعيد والموظف يسرق حبات القمح ويبيعها في السوق السوداء، ويبني الفلل ويبيعها ويحول الجزر إلى مدن لهو ويؤجر الغابات على الشركات، حتى إذا أعلن انتماءه للبيروقراطية المالية صعقوا وأصيبوا بالسكتات اللسانية الدماغية، وهم الذين أخذوا حبيبات من الذهب وخيوطا من الدم الشعبي في جيوبهم السرية.
عاشوا على المعلبات الفاسدة، من هذه الدكاكين التي تتاجر بالجمل الثورية، ولا تهمهم طبيعة هذه المعلبات ومن أين تأتي طالما أنها معلبات فاسدة، ومنتهية الصلاحية النضالية، وتسمم الحارات الشعبية، بل تحولها إلى حرائق وحروب ودمار.
المطالعات لجهة واحدة، ورؤية ابليس الملعون فيها دائماً، كأن رؤوسهم شُدت بجنازير، وكأن العين الثانية زجاجية أو موقوفة عن الرؤية، ووراءها شحنة من العاطفة الهائجة، والأقدام مُسمَّرة على الكراسي البيروقراطية، سواء أكانت حمراء أم سوداء أم خضراء، والدفع عبر العلاقات والتداخلات والمسامرات والحفلات وتحت الطاولات، فإذا موظف البيروقرطية هو مالك المتجر الجديد ورئيس تحرير جريدة الإعلانات المثقلة، وصاحب الشركة ومالك أرض في قرية المعدمين، وعضو البرلمان الراقد سياسياً وحزبياً، فيُصرخُ في وجهه: أين النضال والجمل النارية؟ فيقول يا عم دعنا نأكل عيشاً!
موظفُ البيروقراطية الحمراء والسوداء والخضراء وكل الألوان وكل المستويات والجهات التي تتجدد على ظهور العاملين متاجرة بعضلاتهم وحناجرهم وأدمغتهم، تتركهم في التاريخ وفي السجون وفي مراحل الجزر وفي الانعطافات المذهلة في الأحداث معلقين على حبال أو متساقطين في قعر المستنقعات الاجتماعية والسياسية، وفي العوز الروحي الثقافي العميق والعوز المادي.
وفي كل حين لابد أن يظهر مغفلو العمال والفلاحين هذه المادة الأزلية في التجارة الثورية، حيث لم يسهر عليهم آباء وأمهات متعلمون، وتركوهم في دجى الصراع الطبقي بلا مصابيح وبلا كتب، تركوهم لاستغلال أولاد الذوات وأصحاب العيارة النضالية من سيكونون موظفين في البيروقراطية الحمراء والسوداء والخضراء، ومن سيتعاركون على مقاعدها ويتبادلون أدوار سحل الشعوب فيها، وخدمة بيروقراطيات الدفع السريع أو المؤجل حسب الميزان التجاري لكل مرحلة.