عالم عربي جديد في سنة فارقة
تاريخ النشر : الثلاثاء ٣ يناير ٢٠١٢
فهمي هويدي
انتقلنا من سنة الانفجار إلى سنة الاختبار. ذلك أن أحدا لا ينكر أن رياح الثورة التي هبت على العالم العربي في العام الماضي استنفرت الأمة واستدعتها للوقوف بباب التاريخ. لكن تلك بداية الشوط وليست نهايته.
(1)
قرأت لمن قال إن ما حدث خلال العام أكبر من أن يوصف بأنه ربيع عربي، لأن الأحداث التي تتابعت في تلك الفترة تكاد تغطي مساحة قرن كامل. في كمها وعمقها. ومن المحللين السياسيين من قال إن أحدا لو تنبأ في بداية عام 2011 بما حدث في تونس ومصر واليمن وسوريا وبالاهتزازات والأصداء التي ترتبت عليه، لاتهم حينذاك إما بالجنون أو الخرف.
بسبب ذلك، بات العالم العربى مشغولا بما سيحدث خلال العام الجديد، وأغلب الباحثين والعلميين الغربيين المهتمين بالشأن العربي لا يزالون مشغولين أيضا بتفسير ما حدث، وتتعدد اجتهاداتهم في الإجابة عن السؤال لماذا جرى ما جرى، ذلك أنهم فوجئوا بتوالي الانفجارات التي لم تخطر على بال خبراء أجهزة الرصد والتنصت، حتى سمعت من أحدهم قوله إنهم رأوا من خلال ما جرى وجها للعالم العربي لم يروه ولم يعرفوه من قبل. وحدثني قادم من الولايات المتحدة الأمريكية عن شعور خبراء الشرق الأوسط هناك بالخجل والحرج. لأنهم ظلوا طوال العقود الماضية يتحدثون عن عرب غير الذين ظهروا في الميادين والشوارع مؤخرا. عرب إرهابيون ومتخلفون ومستسلمون للأنظمة التي تسلطت على مقدراتهم أو عرب مشغولون باللهو والعبث والانفاق الباذخ في ملاهي أوروبا أو صالات القمار. لكنهم فوجئوا خلال العام المنقضي بعرب آخرين، ثاروا دفاعا عن كرامتهم وضيقا بالاستبداد، فخرجوا مسالمين معبرين عن شوقهم إلى الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعى، وظلت ألوفهم وملايينهم معتصمة بالميادين طوال أشهر عدة، منهم من واجهوا الرصاص بصدور عارية، ومنهم من تنافسوا على الشهادة. وجميعهم أثبتوا شجاعة نادرة وإصرارا منقطع النظير.
حين سمعت هذا الكلام وجدت أن العقيد القذافي كان معذورا حين بوغت بالثورة على نظامه، فصاح في المتظاهرين قائلا: «من أنتم؟» إذ رغم أنه أراد أن يعبر عن احتقاره لهم، فإنه في حقيقة الأمر كان يواجه شعبا لم يعرفه. وهي ذات الخلاصة التي خرج بها أولئك النفر من الباحثين، الذين «اكتشفوا» عربا لم يعرفوهم، بعدما ظلوا طوال الوقت يتحدثون عن قشرة مشوهة في العالم العربي سلطت وسائل الإعلام الأضواء عليها، كما ظلوا يتعاملون مع أنظمة وأجهزة أمنية لا تجيد إلا قمع المواطن العربي والازدراء منه.
(2)
إذا ألقينا نظرة على المشهد من بعيد، فسنجد أننا بصدد زمن تغيرت فيه موازين القوة لصالح الأفراد. آية ذلك مثلا أن شركة «نت فليكس» الأمريكية كانت تستخدم لغة آمرة مع عملائها فيما خص زيادة الأسعار، ولكن العملاء قرروا أن يتحدَّوها. فنظموا أنفسهم وانسحب منهم 800 ألف شخص، مما أدى إلى انخفاض سعر سهمها في البورصة، وكان ذلك ما فعله بنك «أوف أمريكا» عندما فرض رسوما قدرها خمسة دولارات على البطاقات الائتمانية. فما كان من العملاء سوى إجبار المصرف العالمي على التراجع عن قراره والاعتذار عنه. ومنحت شركة كوكاكولا شكلا جديدا لعلب مشروبات المياه الغازية التي تقدمها في مناسبة الأعياد، فجعلتها باللون الأبيض. ولكن المستهلكين اعترضوا على ذلك وأجبروها خلال أسبوع واحد على التراجع والعودة إلى اللون الأحمر الذي اعتادوا عليه. وهذا ما فعلته شركة «جاب» الشهيرة للملابس، التي صممت شعارا لها لم يسترح إليه العملاء من خلال رسائل الإنترنت، فتخلت عن الشعار إرضاء لهم.
هذه النماذج استعرضها الكاتب الأمريكي توماس فريدمان محرر «نيويورك تايمز»، لكي يدلل عن تعاظم الدور الذي أصبح بمقدور الأفراد القيام به في ظل ثورة الاتصالات الحاصلة في العالم، وكيف أنها مكنت أولئك الأفراد من أن يتواصلوا مباشرة مع بعضهم بعضا، ويشكلوا فيما بينهم قوة ضغط تتعذر مقاومتها أو تجاهلها من جانب الجهات صاحبة القرار. بكلام آخر فإن التقدم الكبير الذي حدث في شبكات التواصل الاجتماعي سلح المجتمعات العصرية بدرجة من القوة والجرأة لم تكن متوافرة لها من قبل. ولم يعد ذلك مقصورا على بلد من دون آخر إلا في الدرجة فحسب.
هذه الخلفية استحضرها أغلب المحللين الذين تصدوا لتفسير ما جرى في العالم العربي، حين أشاروا إلى دور ثورة الاتصال في هبوب الإعصار الذي اجتاحه في بداية العام الماضي، وفي التجربة المصرية قرائن عدة تؤيد ذلك، تمثلت في إطلاق صفحة خالد سعيد على الإنترنت، واستخدام شبكة التواصل الاجتماعي في تنظيم المظاهرات من وراء ظهر أجهزة الأمن، وشن حملات التعبئة سواء ضد النظام السابق أو ضد أخطاء المجلس العسكري الحاكم.
لم يكن ذلك هو العنصر الوحيد بطبيعة الحال، لأن ثمة عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية استفزت الرأي العام وملأت الناس بالسخط والغضب، بحيث ما إن انطلقت الشرارة من تونس التي كانت مهيأة للانفجار حتى توالت الانفجارات في الأقطار العربية الأخرى. وبدا واضحا هذه المرة أن غضبة الجماهير اتسمت بدرجة عالية من الإصرار والجرأة، التي أراها ماثلة تحت أعيننا في الجماهير المصرية التي أصبحت بعد إسقاط نظام مبارك تخرج في مليونيات تتبنى مطالبها بين الحين والآخر. ونراها بصور أوضح في ثبات الجماهير اليمنية والسورية وتمسكها بالخروج إلى الفضاء العام طوال الأشهر العشرة الماضية.
إضافة إلى العوامل الداخلية فإن باتريك سيل الكاتب البريطاني المتخصص في شئون الشرق الأوسط لفت الانتباه إلى مصدر آخر لتفجير الثورات العربية تمثل في «الرغبة العميقة لدى شعوب تلك الدول في التعبير عن الهوية العربية والإسلامية، وعن تحررها من أي وصاية ثقافية وسياسية أجنبية». وأشار إلى أنه في أنحاء الشرق الأوسط يشعر المرء بوجود ثورة ضد المحاولات الأجنبية لفرض نمط مجتمع غربي على العالم الإسلامي إلى جانب إخضاعه للمصالح الاستراتيجية الغريبة. وقد نكون بصدد فصل جديد وربما أخير في النضال العربي الطويل ضد الاستعمار الغربي الذي بدأ بعد الحرب العالمية الأولى». (الشرق الأوسط 30/12).(3)
قد لا نبالغ إذا قلنا إننا بصدد عالم عربي جديد ولد في عام 2011، على أيدي الشعوب التي سرت فيها روح أيقظت فيها تطلعات وأحلام ظلت مختزنة ومحبوسة، على الأقل منذ أن نالت تلك الشعوب استقلالها الوطني في منتصف القرن الماضي، وليس صحيحا أن رياح التغيير جاءت مقصورة على بلد من دون آخر، لكن الصحيح أنها طالت الجميع، ولكن التفاعل معها اختلف من بلد من دون آخر. لذلك لم آخذ على محمل الجد ما قاله الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في 21/12 الماضي من أن الجزائر لها خصوصيتها التي تحول دون تأثرها بأجواء الربيع العربي التي طالت بعض الدول العربية الشقيقة، بدعوى أن الشعب الجزائري «لا يقبل إلا بما ينجزه هو شخصيا». ورغم أنه كان يرد بذلك على دعوات الإصلاح السياسي التي انطلقت في الداخل، فإن التقارير الصحفية ذكرت أنه بصدد التصريح بالموافقة على خمسة أحزاب جديدة، رغم أنه أمضى 12 عاما في السلطة لم يصرح خلالها لأي حزب جديد. كما ذكرت أن رئيس البرلمان أعلن أن الرئيس كلفه القيام بجولة في أنحاء الجزائر للتعرف الى مطالب الناس وشكاواهم. وما كان لمثل هذه الممارسات أن تقع لولا ضغوط الحراك الذي أحدثه الربيع العربي في أرجاء الوطن الكبير.
لا يعيب أي نظام أن يتفاعل مع أشواق الجماهير بالصورة التي يراها ملبية لها بدرجة أو أخرى. لكن ما يعيب النظام حقا أن يتحدى تلك الأشواق أو ينكرها، وقد رأينا أصداء تعبيرات عن تلك الأشواق في مظاهرات الأردن والسودان واحتجاجات الموريتانيين. كما تابعنا مؤشرات نسبية للتفاعل تمثلت في تعديل الدستور المغربي والتعديل الوزاري الكبير في سلطنة عمان، والسعي لتحسين صورة دول الخليج العربي، وتحويل مجلس التعاون إلى اتحاد بين تلك الدول، إضافة إلى الخطوات التي اتخذت لتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين. إلا أن محللا سياسيا سعوديا بارزا هو خالد الدخيل لم يقتنع بهذه الخطوات فانتقد دول الخليج لأنها «بعد عشرة شهور من بداية الربيع العربي، لم تعط أي مؤشر واضح على إصلاح سياسي قادم لاستيعاب موجة الربيع وارتداداتها المتوقعة. (الحياة اللندنية ــ 18/12).
(4)
نخطئ في قراءة الربيع العربي مرتين، الأولى إذا ضاق صدرنا لأننا لم نقطف ثماره بعد. وأذكر فقط أن ثورة 1919 في مصر لم تنجز الدستور إلا في سنة 1923، وتم العمل به في العام التالي، أي بعد خمس سنوات على قيام الثورة.
نخطئ مرة ثانية إذا اعتبرنا أن إسقاط رأس النظام القديم يعني نجاح الثورة وبداية تأسيس النظام الديمقراطي المنشود. ذلك أن إسقاط رأس النظام هو بداية النجاح الذي ينبغى أن يستكمل بإسقاط أركانه وذيوله. علما بأن هذا وذاك لا يعني بالضرورة تأسيس النظام الديمقراطي، لأن خبرة التاريخ علمتنا أن بديل النظام المستجد ليس ديمقراطيا بالضرورة، ولكنه قد يكون طاغية آخر. وبالتالي فإن بلوغ الهدف الديمقراطي المنشود يستلزم خوض معركة أخرى غير تلك التي أسقطت رأس النظام المستبد والخلاص من أعوانه.
بقيت أربع ملاحظات أخيرة وجدتها محل إجماع بين أغلب التعليقات والتحليلات الغربية التي تناولت موضوع الربيع العربي، هى:
إن مستقبل الربيع العربي معلق إلى حد كبير على مدى نجاح أو تعثر الثورة في مصر. ذلك أن الربيع سيبلغ ذروته إذا نجحت، وسيتحول إلى كابوس ثقيل إذا فشلت. إن الانتخابات التي جرت في ظل الوضع المستجد أسفرت عن تأييد واسع للتيار الإسلامي، لذلك فإن الجميع ينتظرون ثمرة ذلك التأييد، وهل سيكون خطوة إلى الأمام أم انتكاسة ورجوعا إلى الوراء، أداء الإسلاميين هو الذي سيرجح هذه الكفة أو تلك.
إن الأوضاع المستجدة في العالم العربي لا تحمل ودا كثيرا للسياسة الأمريكية، التي طالما ساندت الأنظمة المستبدة في المنطقة. ولذلك فإن مستقبل العلاقات الأمريكية العربية سيظل في مهب الريح.
إن حلول الربيع العربي يشكل ضربة موجعة لاستراتيجية إسرائيل التي أفقدها الربيع أهم حلفائها بعد الولايات المتحدة، وعلى إسرائيل أن تفكر في أمرين قبل أن تتدهور علاقاتها مع العالم العربي الجديد الذي يتشكل الآن. الأول أن تسارع في التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، والثاني أن تبحث عن حليف قوي آخر بديل عن مصر، وتركيا هى المرشحة للقيام بهذا الدور نظرا لعلاقاتها التاريخية الوثيقة مع إسرائيل، إلى جانب احتفاظها بعلاقات إيجابية مع واشنطن.
شىء جيد أن ينهض العرب ليقفوا على باب التاريخ، لكن الاختبار الكبير الذي ينبغي أن يجتازوه بنجاح يتمثل في أن يقيموا نظامهم الديمقراطي الذي يسوغ لهم أن يحجزوا لأنفسهم مقعدا في مجرى التاريخ.