قضايا و آراء
عبدالجبار الكبيسي والتفوق على الجراح
تاريخ النشر : الأربعاء ٤ يناير ٢٠١٢
كان عبدالجبار أرزيك - كما كنا نعرفه في أوائل الستينيات - احد طلاب عراقيين قلائل قادهم تفوقهم الدراسي إلى نيل بعثة جامعية في كلية الهندسة في الجامعة الأمريكية، وقد عزز العلاقة بيننا آنذاك انتماؤنا يومها إلى فكرة البعث قبل أن تبعدنا انشقاقاته المتتالية عن بعضنا بعضا في العقود التالية.
كان ابن الانبار ذا قسمات حادة تلفحك كما رمال الصحراء، وكان كل شيء في تكوينه يشي بصلابة نضالية عالية، كما كانت تصرفاته تعكس شخصية مطبوعة بجدية استثنائية فلم تجذبه في أجواء الجامعة سهرات الرقص والغناء، ولا جلسات السمر وتبادل النكات، وكان كلما شاهد «رفيقاً» غارقاً في إحداها أعلن «سقوطه» من قائمة المناضلين.
كان ذلك من دون شك مفهوماً لدى حزبي يعاني رفاقه في العراق السحل والقتل والمطاردة والاعتقال في أوائل الستينيات، حين تعرفنا إليه، وكان ذلك أيضاً طبيعيا بعد ان آلت تجربة حزبه الأولى في السلطة عام 1963 إلى الانهيار ليطلق ذاك الانهيار جملة اجتهادات وتفاسير وتناقضات وانشقاقات مزقت الحزب الواحد، وأحياناً العائلة الواحدة.
وبعد عشرين عاماً على لقائنا الأول في بيروت، كان لقاؤنا الثاني في دمشق، وقد بات أبواحمد عضواً في القيادة القومية للحزب هناك.
في ذلك اللقاء لم يكن عبدالجبار قد تغيّر كثيراً، فمبدئيته اشتدت، وصلابته «تفولذت»، وجرأته طغت حتى على الالتزام التنظيمي، فقد كان عالي النبرة في انتقاده، شديد الحدة في معارضة ما لا يوافق عليه، عنيفاً في التصادم مع من يعتقده انتهازيا أو متملقا أو منافقا «للسلطان»، وكان في الوقت ذاته عراقيا متمسكا بعراقيته حتى العروبة التي بقي ابن بادية الشام أمينا عليها.
طاردته أجهزة سلطة حزبه رغم انه كان قياديا فيه، وتدخل الرئيس حافظ الأسد أكثر من مرة لحمايته من تلك الأجهزة، حتى كان قرار رحيله عن دمشق إلى جنوب فرنسا حيث أمضى بقية حياته إلا من رحلتين إلى العراق:
الرحلة الأولى جاءت عشية العدوان على بلاد الرافدين، حيث فوجئ الكثيرون بهذا المهندس العراقي يتجاوز جرحاً بليغاً من النظام الذي عارضه أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، والذي تسبب أيضا في إعدام شقيقين له، وفي منع والدته العجوز من زيارته في دمشق حتى وافاها الأجل وفي قلبها وقلبه حسرة.
سأل كثيرون أبااحمد: كيف نسيت جرحك من النظام وذهبت إلى بغداد؟ وكان الجواب بسيطاً: الجرح القادم على بلدي سيكون أكبر، وإذا كان النظام قد قتل لي شقيقين، فان ضحايا الحصار والعدوان والاحتلال القادم سيصلون إلى حدود الملايين من اخوتي وأخواتي العراقيين.
وكان في موقفه ذلك درساً ونموذجاً لكثيرين.. بل كان رمزاً للتفوق على الذات الجريح من اجل الهدف الوطني .
أما الرحلة الثانية فكانت إلى بغداد بعد أسابيع من الاحتلال حيث صمم المناضل الوطني والقومي الشجاع أن يعود إلى بلده ليسهم في أمرين رآهما متلازمين: أولهما: المساهمة في تنظيم المقاومة، وثانيهما: السعي إلى بناء جسور بين القوى المناهضة للاحتلال لإدراكه أهمية الوحدة الوطنية لصون المقاومة وإفشال مشاريع الاحتلال.
وعلى الرغم من أن المهمة الأولى (المقاومة) أزعجت المحتل، فان المهمة الثانية (لقاء القوى المضادة للاحتلال) كانت الأخطر عند رجال بريمر (الحاكم العسكري الأمريكي آنذاك) الذي ما ان اندلعت انتفاضة الفلوجة الأولى وبعدها انتفاضة النجف، وتوحد العراقيون على مقاومة الاحتلال، حتى أصدر أمراً باعتقال عبدالجبار وإبقائه، رغم المرض، أكثر من عام نزيل سجون الاحتلال، ثم جرى إبعاده من العراق من اجل أن تنجح مخططات نيجروبونتي (الذي خلف بريمر) في دفع العراقيين إلى الاحتراب الأهلي بكل صنوفه.
ورغم كل أشكال الحصار والتشويه التي واجهت المقاومة العراقية الباسلة، فلقد كان عبدالجبار وإخوانه لسانها في كل عواصم أوروبا، وسيفها في كل المحافل والمنابر، مخترقين في سبيلها كل الحواجز والمصاعب والعوائق.
وأكسبت مرارة الأيام أبا احمد لغة ساخرة، فحين كنا نجتمع في مؤتمر أو ملتقى أو منتدى، كانت له تعليقاته المرة على هذا الموقف أو ذاك الرجل، ضاحكاً من لقب «المحلل الاستراتيجي» الذي باتت الفضائيات تطلقه على بعض ضيوفها لتبرير استضافتهم تلبية لأوامر «عليا».
وإذا كان رحيل عبدالجبار الكبيسي، وهو في عز عطائه، أمرا محزنا من دون شك، فإن ما يحزننا أكثر انه رحل قبل أيام من مغادرة آخر جندي محتل ارض العراق الطاهرة، وهو يوم أفنى أبواحمد سنوات من عمره يناضل من اجله.
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.