مقالات
العلاقة بين حزب البعث السوري وعلماء السنة
تاريخ النشر : السبت ٧ يناير ٢٠١٢
من خلال رسالة الدكتوراه التي أعدها، يقدم لنا الباحث والأكاديمي توماس بييري تحليلا عميقا تطرق فيه إلى الحديث عن الدور الذي يلعبه رجال الدين - أو علماء الدين - في سوريا حيث انه يركز في إبراز تنظيمهم وعلاقتهم الوثيقة بالنظام الحاكم في دمشق.
يعتبر المؤلف أن رجال الدين قد يلعبون - غدا- دورا محوريا وأساسيا في سوريا، المقبلة على إعادة تشكيل مشهدها السياسي لا محالة في ظل الأزمة الخانقة التي تواجهها. إن المشهد السياسي سيتشكل من جديد في سوريا، بقطع النظر عن النهاية التي ستنتهي إليها الأحداث الدامية التي نشهدها الآن.
يتعمق المؤلف في في تحليل مسيرة رجال الدين السوريين وإبراز العلاقة الصعبة التي تجمعهم بالنظام البعثي وسلالة الأسد الحاكمة. لطالما لعب رجال الدين دورا سياسيا مهما في سوريا التي ظل الغرب ينظر إليها من خلال واجهتها «العلمانية» فقط.
لقد عايش رجال الدين في سوريا العديد من التقلبات على مدى التاريخ العنيف والدامي الذي عرفته البلاد، نذكر منها على سبيل المثال التداعيات الناجمة عن الثورة الإسلامية الإيرانية التي قادها آية الله الخميني ومحاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس السوري السابق حافظ الأسط على يد أحد المنتمين إلى الإخوان المسلمين سنة .1980 يجب أن نذكر أيضا المذبحة التي ارتكبها نظام حافظ الأسد في مدينة حماة التي انتفضت ضد سلطات دمشق سنة 1982 وقد أعقب ذلك حملة اعتقالات واسعة في صفوف رجال الدين.
لقد حاول النظام الحاكم في دمشق الانفتاح السياسي على استحياء أكثر من مرة غير أنه كان دائما يخيب الآمال، وقد تجلى ذلك على وجه الخصوص في تلك الوعود الفضفاضة التي دغدغ بها الرئيس الحالي بشار الأسد مشاعر الشعب السوري لدى توليه مقاليد الحكم خلفا لوالده.
لقد ظل رجال الدين يرتبطون بعلاقة وثيقة ومعقدة مع النظام البعثي بقيادة الأسد، فهم يلعبون أحيانا كثير دورا تكامليا مع نظام دمشق ويصبغون عليه الصورة الإيجابية التي يريدها غير أنه تبرز بينهم دائما أصوات مناهضة للنظام. يرى المؤلف أن الانظار تتجه إلى سوريا الآن كي تتبين الكيفية التي سيعاد بها توزيع الأوراق.
في القرن العشرين استطاع علماء الدين السنة أن يتغلبوا على الكثير من التحديات الصعبة ونجحوا بالتالي في الحفاظ على وجودهم في وقت كانوا فيه يستهدفون لحملة شديدة من دعاة ومنظري الحداثة. يعود الفضل في صمودهم إلى تقاليد العمل الميداني التي تميزهم عن أولئك المنظرين المتأدلجين الذين لم يستطيعوا النزول من أبراجهم العاجية والتخلص من جلباب النخبوية. هكذا نجح علماء ورجال الدين السنة في تعزيز نفوذهم في صلب المجتمع السوري الذي طرأت عليه تغييرات عميقة بفضل تطور نسبة التمدرس.
نجح علماء ورجال الدين السنة الأكثر استقلالية أيضا في إفشال المحاولات التي ظل يبذلها نظام حزب البعث العلماني - الذي يسيطر عليه العلويون - من أجل تهميشهم.
في مطلع القرن الحادي والعشرين، لا يمثل رجال الدين والعلماء السنة مجرد فئة بيروقراطية موالية لنظام البعث الحاكم، كما أن صعود فئة «المفكرين الإسلاميين الجدد» بدعم كبير من النظام البعثي الحاكم في دمشق لم يفلح أيضا في تهميش دورهم المجتمعي والفكري والديني الكبير. تستند هذه النخبة الاجتماعية الديناميكية إلى قاعدة شعبية عريضة وهي تحصل على الدعم المالي الكبير من القطاع الخاص على وجه الخصوص كما أنها ارتبطت بعلاقات شراكة وطيدة وغير متوازنة وغامضة أيضا إلى حد كبير مع النظام الحاكم في دمشق.
عمل الدكتور توماس بييري محاضرا في مجال الإسلام المعاصر في جامعة ادنبرة وقد أشرف على تأليف كتاب «الإسلام السوري - تحليلات وشهادات» (2008). يعتبر المؤلف أن جزءا كبيرا من رجال وعلماء الدين السنة هم في قلب الأحداث الدامية التي تشهدها سوريا هذه السنة، باستثناء ذلك الشق المعروف بولائه للنظام البعثي الحاكم في سوريا.
لا شك أنهم سيلعبون أيضا دورا حاسما في تحديد مصير سلالة الأسد التي ظلت تحكم سوريا على مدى عقود بالحديد والنار، مستندة إلى ايديولوجية البعث التي تنظر للدكتاتورية والاستبداد.
بعد القضاء بشكل شبه كامل على الإخوان المسلمين عقب انتفاضة 1982 في مدينة حماة أصبح علماء ورجال الدين السنة هم الذين يمثلون - بدون منازع تقريبا - الحركة الاسلامية السورية. ورغم القمع الشديد فقد استغل هؤلاء حالة النقمة الكبيرة على النظام البعثي من أجل تعزيز نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضا في أوساط المجتمع السوري.
إن المتأمل في المشهد السياسي السوري يلحظ تناقضا لافتا للاهتمام، فالنظام البعثي الحاكم في دمشق - المعروف بتقاليده العلمانية وهيمنة العسكريين العلويين الذين ينحدرون أساسا من الأرياف - قد وجد نفسه مضطرا إلى بناء شراكة قوية مع النخبة الدينية السنية في المدن وقد ظهرت هذه العلاقة المعقدة للعيان على امتداد الأشهر الأخيرة التي شهدت فيها سوريا أحداثا دامية.
يتنقل المؤلف بالقارئ عبر المساجد والمدارس القرآنية السورية كما أنه يحلل عدة مسارات ديناميكية حيوية غير معروفة بالقدر الكافي مثل تنامي ظاهرة التعليم الديني غير الرسمي إضافة إلى تنامي دور رجال الدين والعلماء السنة في الجمعيات التي تعنى بالعمل الخيري إضافة إلى الهزيمة التاريخية المدوية التي تكبدها السلفيون في مواجهة الاخوان المسلمين، ناهيك عن الحضور القوي للقبائل في النخبة الدينية في مدينة حلب على وجه الخصوص. إن هذا الكتاب ضروري لكل قارئ يهتم بماضي سوريا ومستقبلها.
المؤلف
حصل توماس بييري على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والاجتماعية من كلية العلوم السياسية في باريس وجامعة لوفان الكاثوليكية، كما حصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة لييج ببلجيكا وشهادة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة بروكسل (2000) علما أنه أعد رسالة أكاديمية نال من خلالها شهادة ماجستير ثانية في علم السياسة المقارن العالم الإسلامي من جامعة باريس (2003). تعلم اللغة العربية في المعهد الفرنسي في دمشق في الفترة ما بين عامي 2003 و .2004 في سنة 2010 التحق بقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون. تتركز بحوثه على وجه الخصوص في سياسات الشرق الأوسط، وخاصة المشهد السياسي في سوريا والعلاقة بين السياسة والإسلام المعاصر.