دروس غير مستفادة
 تاريخ النشر : الأحد ٨ يناير ٢٠١٢
بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح
التاريخ سجل حافل بالدروس والمواعظ لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد، وهي دروس بليغة، ومواعظ حكيمة من أخذ بها واستمع إليها وعمل بمقتضاها فقد افلح ونجح، ومن اعرض عنها، ولم يلق إليها سمعه وقلبه تجاوزته إلى غيره ممن لهم قلوب يفقهون بها، ولهم أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها، وليسوا كالانعام التي لا تفقه ما يدور حولها، ولا تدرك ما هي مهمتها في هذه الحياة.
ولقد اختار الحق تبارك وتعالى القصص ليجعلها وسيلته لتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسليته مما قد يواجهه من انكار قومه له، وصدودهم عن دعوته، بل أكثر من ذلك محاربتهم له، واجباره على مفارقة وطنه مكة التي احبها حبا ملك عليه مشاعره وأحاسيسه وقال يوم ان خرج منها مضطرا: انكِ احب البلاد الى الله واحبها إليّ ولولا أن اهلك اخرجوني ما خرجت منك، وكان عندما يتذكرها تنحدر الدموع من عينيه.
كان الله تعالى يقص عليه في مواطن كثيرة أخبار من سبقه من اخوانه الأنبياء وما واجهوه من اقوامهم وكيف صبروا واحتسبوا في سبيل الدعوة، وصمدوا أمام كل المحن والخطوب حتى نصرهم الله تعالى على أعدائهم وأظهر دعوتهم وقال سبحانه وتعالى: «ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (١٧١) إنهم لهم المنصورون (١٧٢) وإن جندنا لهم الغالبون (١٧٣)» (الصافات).
وقال تعالى في معرض التهوين عن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من قومه من كفر وجحود وعداء: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد (٦) إرم ذات العماد (٧) التي لم يُخلق مثلها في البلاد (٨) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (٩) وفرعون ذي الأوتاد (١٠) الذين طغوا في البلاد (١١) فأكثروا فيها الفساد (١٢) فصب عليهم ربك سوط عذاب (١٣) إن ربك لبالمرصاد (١٤)» (الفجر).
هذه احوال أمم وحكام طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وساموا اقوامهم سوء العذاب، فكان الجزاء من جنس العمل «فصب عليهم ربك سوط عذاب» يلهب ظهورهم ويذيقهم من العذاب ألوانا وصنوفا لا قبل لهم بها، ولا طاقة لهم على احتمال ألمها الشديد.
وانك يا محمد (صلى الله عليه وسلم) لست بدعا في الانبياء، فانك ستواجه ما واجه اخوانك الانبياء من قبل ولكن الله تعالى ناصركم ومؤيد دينه ولو كره المشركون.
وها هو فرعون الذي بلغ الحد والغاية في الكفر والجحود ينادي في الملأ من قومه: أنا ربكم الأعلى، ويقول لهم:«أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي» ثم يتطاول على مقام الالوهية والربوبية حتى أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ولم يذهب خبره سدى، ولم تطو الأرض بين حناياها بدنه فتبهت سيرته ويتلاشى نبؤه بل جعله الله تعالى آية يرددها الناس في صلواتهم وفي تلاواتهم للقرآن: «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون» (يونس/٩٢).
ولأن الله تعالى كما وعد رسوله صلى الله عليه وسلم ووعده الحق، وحين قال عن الأمم السالفة وعن فرعون انه لهم لبالمرصاد، فها هو يكون سبحانه بالمرصاد لحكام في عصرنا الحاضر ظنوا كما ظن فرعون من قبل انهم آلهة لا يرد لهم قول، ولا يعصى لهم أمر، وانهم خالدون باقون ان لم يكن في ذواتهم ففي ذرياتهم، وأراد الحق تبارك وتعالى أن يجري عليهم سننه التي لا تتخلف، وان ينزل بهم حكمه العادل على ما فرطوا في جنب الله تعالى أولا، وفي جنب شعوبهم ثانيا، فنجى بعضهم ببدنهم ليكونوا لمن خلفهم وأمامهم آية، وابقى بعضهم أحياء يرون بأم اعينهم وبأحاسيسهم ومشاعرهم الذل بعد ان تمرغوا في العز والثراء الفاحش على حساب شعوبهم.
انها دروس بليغة ومستفادة لمن كان له قلب واحساس وضمير حي لا ميت أما الذين ران على قلوبهم وختمت فهم لا يفقهون بها ولا يعون ما يجري حولهم ويظنون أصوات الشعب المنادي برحيلهم انما هو تأييد لهم ودعاء ان يحفظهم الله تعالى من كل سوء.
انها دروس مستفادة لمن يريد الحق ويسعى إلى تحصيله، وهي دروس غير مستفادة لمن لا يرى في الوجود غير ذاته، ولا مصلحة غير مصلحته ومصلحة من يلوذ به من الاعوان والمنافقين، انها دروس مستفادة، لمن يتذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب ومصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
وهي دروس غير مستفادة لأناس ظنوا انهم فوق البشر، وانهم مرفوع عنهم التكليف، وان القوانين والشرائع لم توضع لهم ولأمثالهم، بل وضعت للعامة، فهم يقتلون ولا قصاص، ويسرقون ولا حساب، ويهتكون الأعراض ولا جلد أو رجم.
ولم يكتفوا بأن تكون الحصانة لهم وحدهم بل جعلوها لأبنائهم وخدمهم وحشمهم، فالقانون مطلق اليدين والقدمين حين يخطئ أحد من العامة، وهو مغلول الى عنقه حين يكون المخطئ والمخالف والعاصي منهم، ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من الهلاك ان هي جعلت ميزانا خاصا للخاصة وموازين للعامة فقال صلى الله عليه وسلم: «أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد تلك المرأة فقطعت فحسنت توبتها بعد ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها: وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (رواه النسائي واحمد ومسلم).
إذاً، فدروس التاريخ في قديمه وحديثه دروس مستفادة لمن القى السمع وهو شهيد، وخشي الرحمن بالغيب، وتمثلت له الآخرة بجنتها ونارها وصراطها، وبنعيمها وعذابها، وبخلود الناس فيها إما في الجنة وإما في النار.
وهي دروس غير مستفادة ويمر عليها الطغاة والمستبدون فيعرضون عنها كأنهم ليسوا المعنيين بها وصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى: «وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون» (يوسف/١٠٥).
ويبدو - والله أعلم - أن هؤلاء الحكام أصابت قلوبهم جميع الأدواء فختم الله على قلوبهم، وجعل عليها الران، وصيرهم الى الغفلة التي تشغلهم عن رؤية الحق وانتهاج سبيله.
.