الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


خلاصة الأنواعِ الأدبية العربية (1-2)

تاريخ النشر : الأربعاء ١١ يناير ٢٠١٢

عبدالله خليفة



لم يكن للعرب فسحة تاريخية لتكوين الأنواع الثلاثة الثقافية: الدراما، والملحمة، والشعر الغنائي الحر، كأنواع مستقلة متنامية، وقادت الظروفُ الصحراويةُ البدوية الضارية وسيطرة شيوخ القبائل إلى شمولية دينية بأيدي نوعي الرؤساء: رؤساء السلطة، وشيوخ الدين.
وإذا كانت هاتان السلطتان موجودتين في زمنيةِ الجاهلية لكنهما كانتا متعددتين، بعدد القبائل وأجنحتها الداخلية ولكن السلطة عبر الإسلام تمركزت ولم تظهر بشكل ثنائي إلا داخل البنى المركزية.
هذه الظروف الموضوعية قادت النوع الغنائي إلا أن يكون ذاتيا لا يتسم بقدرة موضوعية كبيرة، فهو صوت للذات المتضخمة أو المتقزمة، مدحا أو ذما، يمدح فيعلي للسماء، أو يذم فيخسفُ حتى الأرض.
فيما الأغراضُ الأخرى تدور حول الذات، التي لا تستطيع الخروج الصحي من داخلها، عبر الالتحام بالجمهور والتقدم الجماعي الحر، ومن هنا فهي حين تمدح تغدو مقزمة لذاتها الفردية، تابعة لشيخ قبيلةٍ أو لسلطة فيما بعد هي ذاتها رئاسة قبيلة، فيُمدحُ هذا الشيخُ الكريم حتى ان سرائره تغدو فرحةً كأنه هو الذي يُعطى، أو أن عطاءه يصير مثل المطر، وغضبه مثل الصواعق.
الشاعر الغنائي يلغي ذاته، حتى حين يمدح القبيلة، يغدو ذرة في ترابها، ويعبر هذا عن تقزم الفئات الوسطى، التي يمثل الشاعر نواتها الثقافية المهمة، وهو إذ يعبر فرديا، يكشف مصيرَ الفئاتِ الوسطى التابعة لشيوخ القبائل حين كانوا سلطات قبلية متعددة، أو حين يصيرون سلطة مركزية هي الدولة الأموية فالعباسية.
ومن هنا يصيرُ الجنسُ الغنائي هو هيكل الشعر، لكون الذات المتضخمة أو المتقزمة تغدو هي الصانعة الأساسية له، ولكون الفئات الوسطى تغدو تابعةً لشيوخ القبائل وللخلفاء وللدول.
الجنس الغنائي ينمو عبر تطور هذه الفئات ومقاربتها للحداثة، أو يتبدى ويتصعلك حين تغدو المشيخة القبلية الحاكمة بدوية تمنع التطور الحداثي الحر.
تتعدد الأغراض وتنمو عبر الحداثة، وبمدى قدرة الفئات الوسطى على الاستقلال، وعلى مراقبة الواقع ونقده، وتسجيل أحداثه والتوغل لسببياتها، ورؤية لاتجاهاتها.
الشعرُ الغنائي يحجزُ الأنواعَ الأخرى: الملحمةَ والدراما عن التطور، فهو يصيرُ أداةً داخل مباني السرديات البسيطة الطالعة بجواره، حيث يفرض إيقاعه، الذي يغدو جزئيا مبتورا، لكن القيد الأكبر يأتي من الرؤى، حيث ان المواقف التابعة من قبل الفئات الوسطى للإقطاع هي نفسها لا تتغير، فالناثر كالشاعر يطلبُ حمايةَ الوزير أو الأمير أو يرحلُ بكتابه باحثاً عن حام كريم.
من هنا تغدو الغنائيات العربية الكبرى متشكلةً من هذا التوتر التاريخي غير المحسوم بين الفئات الوسطى والإقطاع، بين فئاتٍ تريدُ أن تكون حرة من دون أن يكون لديها الإنتاج المادي، أو أن تقدرَ على بيع ثمارِ عملها في سوق تُشترى فيها هذه المادة الرفيعة بما يليقُ بها.
من هنا يغدو (التكسب بالشعر)المظهر الأبرز في رحلة ذل هذه الفرديات العبقرية، فهذه الفردياتُ الصاقلة لذواتِها بثقافةِ العرب الحرة شعرا جاهليا وقرآنا، تضطرُ لكي تعيش إلى أن تبيعَ هذا الشعرَ لمن لا يفهمهُ أو مَنْ لا يُقدر استقلاليتَهُ وتفرده، فيحول الصانعُ الثقافي ذاته لعبقرية الممدوح، ولكرمه وشجاعته وغير هذا من صفاتٍ غيرِ موجودةٍ إلا في خيال التكسب المريض.
لهذا فإن المهووسين بذواتهم أو العقلانيين في انعزالهم وفقرهم وشظفهم، من الشعراء الكبار، يوجهون المديحَ لما ليس فيه ذل لهم، كأبي نواس يحولُ المدحَ للخمرة، وفي دبيبهِ الليلي يسخرُ من عالمِ العرب القبلي الذي أذله، ويحط من أخلاق العرب الدينية والفروسية، وهو مسارٌ مرضي عدواني، يعبر عن غنائية مأزومة بين تخضم الذات وذلها الشديد، والمترددة بين عدوانيتها وتعذيبها لذاتها، بين جسديتها الهابطة وبلاغة مادتها الأدبية الرفيعة، بين محاولتها للسمو وتبعيتها الذليلة.
أو في عمل المتنبي الذي حوّلَ نفسه إلى أمير الشعر، إلى حاكم بلاغة وتعبير، جعل من ثقافة العرب تدور بين أصابعه وهو لا يملك شيئاً، فلا يمدح إلا من ارتفع في العلا، ومن يكون شبيهاً به، فارسا حاكما على اللغة أو السلطة، لكن من خلال التسلق إلى الطبقة الإقطاعية، والتسلق يقوده للشموخ مرة وللذل مرة أخرى.
وتغدو السلطة عند أبي العلاء حرة في عزلتها وسخريتها ونقدها لعصر توجه للظلامية وللقبلية المتناحرة، من دون أن تتواشج هذه الرؤية مع قوى تغيير شعبية غير موجودة فتصير يأساً، وبلاغة تعميمية متشائمة.
الفئاتُ الوسطى الشاعرةُ الناثرة لا تختلفُ إلا في لغةِ الجنس الأدبي، ولكن النثرَ خرجَ لاحقاً، ولم تكن سوقهُ موجودة أو ذات حضور، وفي التنغيم الموسيقي للقرآن في الكتاتيب وفي درسهِ المتنوع، وفي الخطب، وفي الرسائل الاخوانية والعملية والسياسية، تنمو اللغة النثرية نحو الحياة، نحو الحضور كلغةٍ إبداعية مستقلة.