الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


خلاصة الأنواع الأدبية العربية(2-2)

تاريخ النشر : الخميس ١٢ يناير ٢٠١٢

عبدالله خليفة



شإن قوانين التطور الاجتماعي هي ذاتُها للشعرِ والنثر، وهذا الأخيرُ الذي يصبحُ أكثر بطئاً ومشقة في الدخول للحياة، يظهر من داخل الطبقة الحاكمة وعبر التأثير الثقافي الفارسي كما هو شعر أبي نواس، أي عبرَ رسائل عبدالحميد الكاتب، الذي يُخضعُ اللغةَ النثرية الأدبية الطالعة لاهتماماتِ القصور، جامعاً بين استرسالها الحر وقيودها الأسلوبية الشعرية، ويسلمُ هذه اللغةَ لابنِ المقفع الذي يأخذُها بعيداً نحو الفئةِ الوسطى وتأثيراتِ الأدب العالمي في ذلك الحين.
بين تحرريةِ الفئاتِ الوسطى وبروزِ استقلالها ونقدها وبين سيوفِ السلطة يُقتل ابنُ المقفع، وهو يحولُ ثقافةَ الأقنعة القصصية إلى رافدٍ سردي كبير، وتبدو قيود الجنس النثري القصصي، وتحايل مولده، وانفجاره التعبيري، في هذه الفترة الثورية بين سقوط الدولة الأموية وصعود الدولة العباسية، حيث غدت أمةُ الشعر ناثرةً أيضاً، تنقدُ الاستبدادَ وتطيعه، وتقدمُ الموادَ المباعةَ من روحِها ليشتريه هذا الاستبداد ويروجه ثم يكيفه لمصلحته.
يمسكُ أداةَ السردِ وهي الطالعة بصعوبة من الغنائية الشعرية المتضخمة أو المتقزمة، كتابٌ كبارٌ جعلوا النثرَ هو حياتهم الابداعية، ولكن الفئات الوسطى لم تعد قائدة للعاملين الفقراء كما كان الحال في مكة، بل غدت متسولةً عند أبواب القصور، أو ثائرة في الغبار الصحراوي الفوضوي، ولهذا فإن الجاحظ لا يقرأ هذه الفئات الوسطى وقد تحولت إلى علماء أفذاذ مطحونين في الأمصار الجديدة يبحثون بصعوبة عن رزقهم وسط الأدغال المدنية، فهو يحولهم إلى أفرادٍ يعيشون من أجل خلة واحدة هي البخل، فيستميتون من أجل توفير حبة قمح أو الاكتفاء بمص عظم. وهو في سرده الحكائي يقطعهم عن عوالمهم الأخرى، ويركزُ في لغات التدبير البيتية لديهم، وفي هذا يعرضُ عروضاً ساخرة تحركُ حياةَ اللغة، وتجعلها قابلةً للسرد والنمو في الشخوص والحالات، ومثلما أن الاعتزالَ يجنحُ للافتراق عن العامة، فلسفياً، فإن النثرَ الجاحظي يفصلُ بين الفرد والفئة، ولا يرى الحراكَ الطبقي التاريخي، والخصلةُ تغدو ذاتية محضة لديه، ومن هنا فالسردُ يفتقدُ التناقض العميق بين الذات والواقع، والشخوص تغدو أجزاء من خصال، ويضمرُ الصراعُ الاجتماعي ويعجز العرضُ الاجتماعي المحدودُ عن أدخال المواد في لهيب الحياة، فينفصل النثرُ السردي عن بنائيةِ الحكاية المتصاعدة المتداخلة بسيرورة المجتمع.
إن الجاحظ لا يطور السرد نحو الحكاية بل نحو الملحة والفكاهة، والبلاغة، فهو في موسوعيته للسيطرة على ثقافة العرب وعرضها، يبقى فيها، يبقى في تعثر عناصرها وسيطرة الغنائية، والتبعية للممدوح الوزير، بشرط أن يغدو الممدوح في مستوى المادح أو أقل منه قليلا، خاصةً في الدراية بالثقافة، مكونين موقفا محافظا واحداً ذا تفتح مدني محدود.
من هنا فإن الرواية لا تُولد، فلقد حدثَ إبعاد للهيمنة الشعرية الغنائية الكلية لكن السرد ظل جزئياً صغيراً لا يتواكب مع وعي واقعي نقدي من موقف فئات وسطى منتجة حرة، بل هي فئات موظفة، تابعة، غير قادرة على تكوين الأنواع الفلسفية المحللة للواقع والمستكشفة لقوانين البناء الاجتماعي الاقتصادي، وعلى إنتاج الأنواع الأدبية المستقلة الحرة.
في هذا المسار المتصاعد بين نمو الثقافة وتوهجها، تنمو كذلك سلطة دولة الخلافة، التي تصبح كلية، فتلغي العناصرَ المستقلةَ الحرة في الوعي والثقافة، وتجذب وتوسع العناصرَ التابعة، فتغدو العناصرُ المستقلة في الفقه مذاهب مقننة حكومياً، فيما تتأسطر وتتمذهب الفلسفة، ويتوسع الأدب والسرد في مسارات التسلية والحفر الجزئي العجائبي للحياة الخيالية وللماضي العربي القبلي.
إن الأجناس الأدبية والفنية تتوجه لتتكيف مع سلطة الدولة الكلية، فحتى الفنون تخضع لعمليات التزيين للقصور والمساجد والدور الخاصة، فيما يخفت ذلك في البضائع.
وتغدو أعمال النثر التالية بعد الجاحظ خاضعة لمواهب الكاتب التابع لولي النعمة، مدحاً أو ذماً، هذا يغدو لدى أبي حيان التوحيدي خطاباً نثريا نقديا ساخرا، وانفجارات تعبيرية لا تصل إلى حد تكوين صورةٍ قصصية كبرى تُدخل الذاتَ المصوَّرة في تناقضاتِ وصراعٍ مع ذاتها ومع الشخوص الأخرى، بل يسيطر الناثرُ على مادته النثرية، بشكل غنائي، لا درامي، ولا ملحمي، فهو يتدفق تبعاً لخطى المدح والذم، ومن هنا فإن الموضوعية النثرية السردية لا تنمو تحليلاً للشخص عبر إحالته لعرض تاريخي وشخوصي متعدد النواحي والأساليب.
تنضبط الثقافة الأدبية النثرية لقوانين التطور الاجتماعي المحكومة بسلطة الإقطاع أكثر فأكثر، بخلاف لحظة ابن المقفع التي تغدو نادرة، فالسردية تتسرب نحو التسلية، والخيال الجامح، وتبتعد أكثر عن سلطة الحكام اليوميين المغلقين المحدودين نحو سلطات الخيال والغيبيات، نحو حريات فردية في ضباب الرغبات الجنسية المستعرة، وفي سلطة الجن والعفاريت الواسعة العالمية، وفي سردٍ شبه حر، حوّل الشعر إلى أداة خاضعة لسلطانه، وراح السردُ النثري يقترب من الواقع والناس وهو في تحليقه الغامض ومغامراته المشوقة، وتداخله باللاعقل والسحر والخرافة.
في هذه الزمنية التي تتجه فيها البنيةُ الاجتماعية للتفكك، سيتوسع النثر السردي لدرجة كبيرة، وسيقتربُ من العاميات الصاعدة، ومن الجمهور الحقيقي في المقاهي والمجالس، وستتحول القصةُ إلى ملاحم سردية في عوالم الخيال، وستغدو المغامراتُ العجيبةُ هي مدارُ السرد المجنح أو النازل لليوميات المبسطة، وهذه المغامرات لا تمسك شيئاً من واقع موضوعي، أو من تحليل، بل ان المغامرةَ هي هدفها والتشويقُ دربُها فتصنع الأحداثَ الغريبة، ويغدو فيها البطل العملاق محورياً تساعده القوى الغيبية والسحرية المختلفة، التي هي كلها لا تعترف بواقع موضوعي أو بفهم تحليلي للحياة.
يقترب النثرُ من القارئ الذي يغدو مباشراً سامعاً كذلك، حيث تترافق كذلك أشكال من الغناء والموسيقى لتحول السير إلى عالم أدبي فني متداخل.
هذا سوف يمهد للرواية الحديثة وللقصة القصيرة والمسرح مع الاحتكاك بالغرب، وتكون تطورات مختلفة خصبة تخترق سيطرة البنى التقليدية على الوعي