خاطرة
أغلال التقليد
تاريخ النشر : الجمعة ١٣ يناير ٢٠١٢
عبدالرحمن فلاح
جاء الإسلام ليحرر العقل الإنساني من أغلال الماضي البعيد، ويطلق سراحه من تقليد الآباء والأجداد، ويعطيه الحرية في أن يؤمن أو لا يؤمن: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...» (البقرة/ 255). وللإنسان بعد ان يبلغ الحلم الحرية الكاملة في الاقبال على الطاعة أو الاعراض عنها وسوف يحاسب يوم القيامة بمقتضى هذه الحرية ولن يكون من عذر يعتذر به عند مولاه عز وجل فقد هيأ له سبحانه أسباب الطاعة والاستقامة، وسخر له الوجود ينفعل لحركته، ويستجيب لسعيه، وييسر له مهمته في هذه الحياة، أعطاه عقلا راجحا يختار به بين البدائل، ورزقه جوارح مأمورة له يوجهها الوجهة التي يختار، ويأمرها فتطيعه ولا تعصيه، فإذا أراد ان يفعل الخير أمرها فأطاعته، وإذا أراد ان يفعل الشر أمرها فاستجابت له، من دون ان تتمرد على إرادته، أو تريد شيئا لا يريده هو، ثم اخضع له الأرض الصماء يضربها بالفأس ليحرثها فلا تتأبى عليه سواء كان طائعا لخالقها عز وجل أو عاصيا له، فهي تستجيب للمؤمن وللكافر، بل هي تعطي الكافر العامل المجد ولا تعطي المؤمن الخامل الكسول، وهذا ما نلاحظه من تقدم الأمم التي لا تدين بالاسلام، وتخلف الأمة الإسلامية، ذلك لأن أولئك تفاعلوا مع أسباب الله تعالى في الكون واجتهدوا، فأحسنوا الأخذ بالأسباب فأحسن الله تعالى إليهم بأن أعطاهم ما عملوا من أجله.
أما المسلمون الذين تكاسلوا، وقعدوا عن العمل والسعي ظانين ان السماء سوف تمطر عليهم ذهبا وفضة، فهؤلاء لايزالون يراوحون مكانهم، بل يا ليتهم يبقون على الحال التي ورثوها عن آبائهم واجدادهم، ولكنهم يتخلفون، ويحققون كل يوم فشلا على فشلهم وتخلفا على تخلفهم.
ولقد أوجدت هذه الحالة عند بعض شباب المسلمين يأساً من نهوض الأمة الإسلامية وظنوا أن التخلف مرتبط بالجينات العربية المسلمة وهذا غير صحيح فمن يقرأ تاريخ الحضارة الإسلامية بإنصاف وما حققته في وقت كانت الأمم الاخرى تعيش عصور الظلام والجهل يدرك أن التخلف الذي تشكو منه الأمة الاسلامية ليس جينا وراثيا فيها بل هو لأسباب تستطيع ان تغيرها وتعود كما كان أسلافها رواد الحضارة والتقدم، وبإمكانها ان يتصل حاضرها بماضيها فتعود ثانية أمة ذات حضارة وتقدم وابداع.
لقد نعى القرآن الكريم على طائفة من العرب تمسكهم بالقديم الضار، وتقليدهم للآباء والاجداد، ودعاهم إلى تكسير الاغلال التي تعوق حركتهم، وتشل من تفكيرهم، وتكبل أيديهم وأرجلهم، فلا يستطيعون الحركة فضلا عن السير قدماً إلى الأمام، وفي معرض رده على دعاوى القوم، وتفنيد حججهم، قال الله تعالى: «وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون (19) وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20) أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (21) بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22)» (الزخرف).
فهل أعملوا عقولهم فيما ورثوه عن آبائهم ليعلموا إذا كان حقا أم باطلا؟ وهل قارنوه بما آل إليه أمر الاباء والاجداد وما حصدوه من ثمار من جراء ما كانوا عليه من الضلال؟ وها هو القرآن العظيم يقرر حقائق لا مجال لدحضها أو انكارها ويبين من خلالها موقف المعاندين لدعوة الحق التي جاء بها المرسلون من عند الله تعالى، يقول سبحانه: «وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23) قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24)» (الزخرف).
هناك اصرار على التقليد، كأن تقليد الآباء والاجداد في ضلالاتهم أغلال تعوق حركة الأبناء، وتصرفهم عن الحق الذي جاء به رسل الله الكرام، والتقليد من أكبر الآفات التي تصاب بها العقول وتصرفها عن رؤية الحق الذي لا مراء فيه، وتظل كذلك حتى تستعيد وعيها الذي فقدته بالتقليد والعصبية للآباء والاجداد.