المال و الاقتصاد
حذر من تداعيات الاقتصاد الليبرالي على الدول العربية
مسئول أممي: لا إيجابيات ترتجى من الانضمام السريع إلى اتفاقية التجارة الحرة
تاريخ النشر : الأحد ١٥ يناير ٢٠١٢
قال مسئول أممي بارز إن «الدول العربية بلا استثناء، واقعة في معضلة كبيرة قد تعصف باقتصاداتها في أي وقت من الأوقات من دون سابق إنذار، وذلك لافتقارها إلى ركائز وبنى أساسية قادرة على تحويل السياسات الليبرالية الحديثة التي طبقتها من دون دراسات سابقة، ومن دون وجود أرضية موائمة لتطبيقها، إثر الضغوط الغربية الاشتراطية التي تعرضت لها، لقلب نماذج اقتصاداتها إلى النموذج اليبرالي الجديد».
وأكد رئيس قسم السياسات الاستراتيجية لتنمية العولمة التابع لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) السيد رجا خالدي في تصريح لـ (أخبار الخليج)، أن «سياسة تنويع مصادر الدخل وتطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة وكذلك تطبيق القوانين والتشريعات العالمية التي تتبعها البحرين، وخاصة في القطاع المصرفي والمالي، تجعلها واحدة من الدول القليلة في المنطقة القادرة على التكيف مع السياسات الليبرالية الجديدة، لكنها تظل خاضعة للتحولات العنيفة التي قد تصدر عن تطبيق مبادىء هذه السياسات».
وأبدى خالدي خلال ورشة العمل التي نظمتها (أونكتاد) في البحرين بمشاركة مصرف البحرين المركزي على مدى يومين، تخوفه من أن تضطر دول المنطقة والدول التي صدرت فكرة الليبرالية الجديدة، إلى هدم حزمة السياسات الاقتصادية الصادرة تحت مفهوم هذه الليبرالية، وبناء سياسات اقتصادية جديدة، وهو ما لم يكن بمقدور الدول العربية تحمل تكاليفها، وبالتالي تعرضها لنكسات اقتصادية طاحنة.
وأشار إلى أن فكرة انضمام بعض الدول إلى منظمة التجارة العالمية، لم يكن فكرة مدروسة على الإطلاق، وقال «ليس هناك من ثمة إيجابيات تنطوي على الانضمام السريع إلى هذه الاتفاقية، بل على العكس من ذلك، فإن نتائجها قد تكون خطيرة جدا على اقتصادات الدول الموقعة على هذه الاتفاقية، فالشروط التي انضمت وفقها المملكة الأردنية على سبيل المثال وليس الحصر، شروط مجحفة جدا».
وأضاف خلال ورشة العمل التي عقدت تحت عنوان: «الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ـ وماذا بعد»، إن «ارتفاع كلفة التحول إلى سياسات اقتصادية جديدة، لن يكون نابعا من عملية هدم البنى المؤسسية للسياسات المطبقة في المنطقة فحسب، بل إن افتقار الدول العربية إلى فكر اقتصادي خاص، وأزمة المفكرين التي تعانيها الشعوب العربية، سيشكلان عاملين للاستنزاف الشديد، ورفع كلف التحول المنشود، وهو تحول مرتقب في وقت تواجه فيه سياسات الليبرالية الجديدة انتقادات حادة في الدول التي تبنتها وصدرتها للعالم في الوقت الراهن».
وأضاف «لا يوجد شيء يسمى (الاقتصاد الإسلامي) في أي مفهوم اقتصادي، ولكن هناك سلوك ومبادئ اسلامية يحاول البعض اتباعها داخل إطار السياسات الليبرالية الجديدة، حتى تتوافق مع القيم الأخلاقية لدى المسلمين، وهي قيم وأخلاقيات موجودة هنا لدى المسيحيين، وهناك لدى اليهود وغيرهما من الديانات الأخرى حول العالم».
استعراض لورقة عمل
واستعرض خالدي في الجلسة الختامية للورشة ورقة مهمة حول (الخلفية والأبعاد الاقتصادية للتحولات الجارية في الدول العربية)، تناول وفقها خمسة محاور جوهرية هي: الجوانب السياسية البارزة للحراك الشعبي العربي، المؤثرات والمصالح الاقتصادية التي تقف خلف كل أزمة سياسية، ابرز اوجه الأداء الاقتصادي العربي في العقد الاول من الالفية، وظيفة عقيدة الليبرالية الجديدة في الدول النامية مرحبا بالعولمة والتكييف الهيكلي، وفض الليبرالية الجديدة... او انقاذها من خلال الاصلاح قبل فوات الاوان، كما استعرض ما أسماه بالخلاصة الأولية، إذا تم إقرار سياسة الليبرالية الجديدة كسياسة اقتصادية عالمية تطبق في الدول العربية.
دوافع تمرد الشعوب
وفيما يتعلق بالمحور الأول؛ الجوانب السياسية البارزة للحراك الشعبي العربي، فقد أشار إلى أن هناك دوافع قوية مشتركة نحو التمرد على الوضع القائم (مع التباين بين حالة وأخرى)، حيث ينظر الكثيرون اليوم إلى أن هناك ضرورة لتجديد العقد الاجتماعي بين انظمة الحكم والمواطنين، وإيجاد حدود ضمنية او صريحة للحريات السياسية والمدنية، والتصدي لانتهاكات او تجاهلات لحقوق الانسان، وبالتالي المطالبة بتدخلات قوى خارجية، والدعوة إلى التطبيع مع اسرائيل والعجز العربي امامه.
وأضاف أن هناك غايات مشتركة بين حالة عربية واخرى تدعو إلى محاسبة افضل لأنظمة الحكم من قبل مواطنيها، وإطلاق حرية التعبير من دون خوف، واستعادة الكرامة الانسانية، واشراك المواطن في الحياة السياسية والتداول السلمي للسلطة، والتخلص من التبعية فيما بعد الاستعمار.
المصالح الاقتصادية للأزمات السياسية
أما فيما يتعلق بالمحور الثاني؛ المؤثرات والمصالح الاقتصادية التي تقف خلف كل أزمة سياسية، فقد أكد الخالدي أن هناك قواسم اقتصادية مشتركة لأنظمة الحكم العربية، صنف وفقها الدول العربية إلى ثلاث فئات: دول ما بعد الاستعمار، ويرى أنها تبرأت من الاشتراكية القومية وبناء قطاع عام قوي مثل العراق ومصر وسوريا والجزائر وتونس وليبيا والسودان واليمن، دول تطورت اساسا بفضل موارد نفطية هائلة أسماها بـ (لعنة الموارد الطبيعية) مثل السعودية وقطر والبحرين والامارات والكويت، ونماذج اخرى ارتبط مصيرها بمصالح استراتيجية اجنبية او تقع خارج السياق العام مثل الاردن، ولبنان، وعمان وجيبوتي والمغرب وموريتانيا.
كما أكد أن هناك بحسب هذا المحور ثمة قيود بنيوية موروثة منذ الحقبة الاستعمارية تعيد تشكيل العلاقات التجارية والمالية مع دول الشمال الاستعمارية السابقة، ومن تلك القيود، تصدير النفط وسلع اساسية، ثم سياحة وخدمات مالية ونفط منذ التسعينيات مقابل تأمين اسواق المنطقة للصادرات المصنعة والتكنولوجيا من الشمال، مما جعل هذه المنظومة من الدول العربية مصدرا لتحويل رؤوس الأموال إلى الاسواق المالية العالمية، كما خلقت نماذج اقتصادية ملائمة لبقاء قيادات ما بعد الاستعمار وبروز نخب مالية وتجارية جديدة في السلطة وانماط جديدة للحكم غيرالرشيد.
مصالح مبنية على مزايا نسبية معدومة
وتعرض الخالدي في المحور الثالث حول أبرز أوجه الأداء الاقتصادي العربي في العقد الاول من الالفية»، إلى خمس نقاط جوهرية، الأولى؛ زيادة في حجم التجارة البينية والخدمية مع العالم وبقاء حصة التجارة الاقليمية بأقل من 10% من دون تحقيق أي تكامل يذكر، وقال إن ذلك يعتمد بالأساس على «الصادرات النفطية التي تتشكل من بعض المواد المصنعة، وصادرات زراعية موسمية ضمن اتفاقيات اقليمية (اوروبية، عربية، شمال امريكية)، بالإضافة إلى صادرات خدمية متصاعدة في قطاعات السياحة والنقل والخدمات المالية، مقابل واردات صناعية ونفطية وزراعية وخدمات مالية من كل أنحاء العالم».
وقال إن «كل ذلك يتم في إطار انفتاح تجاري معتمد على نظريات مشكوك بها تفتقر إلى أية مزايا نسبية».
أما النقطة الثانية التي عرضها تحت هذا المحور، فقد كانت حول (ظهور نمطين اقتصاديين رئيسيين في المنطقة)، وقال عنها إن هناك دولا نفطية تتمتع بفائض تجاري ورأس مال ضخم، تبحث عن وسائل لتوظيفها محلياً وعالمياً من دون القدرة على فك الاعتماد على الدخل السهل الذي تولده ادارة الريع، فيما هناك دول غير نفطية تعاني عجزا تجاريا مزمنا، يولده الاعتماد المفرط على الواردات المنافسة، مما يجعلها تتخبط في محاولة لمعالجتها من دون بناء القدرة الاقتصادية المحلية.
معالجات محدودة
لمشكلات مزمنة
في النقطة الثالثة التي تناولها تحت مفهوم (معالجة محدودة لمشاكل البطالة والفقر من خلال)، قال إن الدول العربية طبقت حتى الآن، سياسات محدودة لإيجاد اسواق عمل مرنة، ضمنت تخفيض مستويات الاجور الحقيقية، او على الاقل عدم ارتفاعها بالتوازي مع الانتاجية الاقتصادية، كما تفترضه النظرية الاقتصادية والتنموية السليمة، كما اعتمدت هذه الدول سياسات للحد من الفقر من خلال (شبكات الامان وصناديق الضمان الاجتماعي)، لكن عليها أن تعترف بصراحة، أنها غير قادرة على القضاء عليه، مكتفية بالاعتراف بوجود المشكلة فقط.
في النقطة الرابعة؛ التخلص من تبعات الخيارات الاقتصادية الخاطئة او غير المدروسة للأنظمة الاشتراكية السابقة، قال إن الدول العربية اعتمدت نماذج لصناعات ثقيلة غير مجدية بتكنولوجيا متخلفة، كما أنها لم تكن مستعدة لموجة التحرر التجاري والعولمة، جاهدة في محاولة الحفاظ على انظمة الحماية التجارية دون الاستفادة منها لبناء صناعات وليدة، فضلا عن أنها تأخرت او علم تكترث البتة، في بناء اسواق تنافسية، تحفظ للقاعدة الانتاجية المحلية حيزا من الاسواق المحلية والإقليمية والعالمية.
أما في النقطة الخامسة التي ساقها تحت عنوان: (عدم إغفال اهمية الاستثمار، لكن في غياب رؤية تنموية)، فقد أشار الخالدي إلى أن على هذه الدول أن تعقد تحالفات مع الاستثمار الاجنبي، في قطاعات النفط والاتصالات والإنشاءات والمصارف والخدمات المالية، بما ينسجم مع مصالحها التوسعية، كما أن عليها إعادة توجيه حصة من الاستثمار العام والخاص والاستثمار الاجنبي المباشر، إلى التنوع الاقتصادي والبنية التحتية والتحضر وخاصة منذ 2001 والتخلي عن عدم الاهتمام المبالغ فيه بقطاع الزراعة والقدرة الانتاجية الوطنية، والاكتفاء بدلا من ذلك كله، باستيراد الغذاء.
ترحيب بالعولمة
والتكييف الهيكلي
وتحت المحور الرابع؛ وظيفة عقيدة الليبرالية الجديدة في الدول النامية: اهلا بالعولمة والتكييف الهيكلي، دعا الخالدي إلى تبني سياسات اقتصاد كلية سليمة ترتكز إلى محاربة التضخم بواسطة اسعار الفائدة المرتفعة، والحد من العجز العام والاقتراض الرسمي، وتعويم اسعار صرف العملة (او ربطها بالدولار) للحفاظ على التنافسية.
أما في المحور الخامس؛ رفض الليبرالية الجديدة... او انقاذها من خلال الاصلاح قبل فوات الاوان، فقد قال إن «الليبرالية الجديدة العربية على المحك، بين مؤيديها الذين يدعون بأنها المنهجية الصائبة للنمو في اقتصاد دولي معولم، ولضمان (آلية السوق الحرة) لتؤدي الى التنمية والديمقراطية: ارقى اشكال الرأسمالية، وبين والمحذرين منها بسبب نتائجها المدمرة لسيادة الدول وللقدرة الانتاجية ولمعيشة الفقراء وما تجسدها من قيم استغلالية وفردية ومالية دون تقيد، وبين طرف ثالث هو المتجاهل لدورها، وخاصة بين الاجيال الشابة، والطبقة الوسطى المدمرة بسببها، والتي تتوق للحريات الفردية ونماذج النجاح المرتبطة بالمسار الليبرالي، وما زالت تريد ان تصدق وعودها الوردية: البحث عن ليبرالية (ألطف وأرحم)».
وقال الخالدي حول تقييم المؤسسات الدولية للسياسات والاداء الاقتصادي العربي 2010، إنها قالت عن مصر وتونس إن كل شيء على ما يرام، فهناك نمو معقول، وسياسات كلية صحيحة، لكنها بحاجة إلى المزيد من التحرر والخصخصة والاستثمار الاجنبي وخفض الانفاق العام.
أما عن ليبيا وسوريا، فقد حثت النخب الحاكمة على المزيد من التحرر والانفتاح مقابل اغراءات استثمارية وتجارية للمضي قدما في الإصلاح، وفيما يتعلق بفلسطين، فقد قالت تلك المؤسسات إن هناك جاهزية لدى المؤسسات العامة لإدارة دولة فلسطينية، تحت ظل حكم رشيد وكفاءة، بعد نجاح السلطة في امتحان اجماع واشنطن!
في خلاصته الأولية للعرض الذي قدمه في الجلسة الأخيرة من ورشة العمل، قال الخالدي «اذًا اقر بان الليبرالية الجديدة اطار لشرعية للأنظمة الاقتصادية السابقة ومصدر قدرتها على البقاء، فإن النتيجة ستكون تدميرا لاقتصاديات عربية بالكامل من خلال تحرر غير مدروس كما حدث في العراق، استنزافا لمقدرات دول أخرى من خلال تشجيع نمط للحكم وصل إلى نهايته المنطقية كما حدث في مصر، فشل لقصص نجاح اقتصادي كما في الحالة التونسية».
وقال إن «السياسات التي تعتبر قصص النجاح التنموية الحقيقية في أمريكا اللاتينية وآسيا باعتناقها لسياسات متعددة العقائد (xodoreteh)، صارت اليوم منبوذة في الكثير من دول العالم»، كما أن الدول التي تبنت منذ البداية السياسات الكينزية التي عملت جاهدة الليبرالية الجديدة على دحرها منذ 30 عام، باتت قيد المراجعة في عقر دارها، وتواجه نقدا علميا متصاعدا من مختلف الاتجاهات التي تحمل هذه النظريات والسياسات التي ولدتها مسؤولية تهيئة الظروف المناسبة لإشعال الازمة المالية من دون القدرة او الرغبة على اطفائها.
وتساءل من دون أن يقدم أجوبة محددة عما إذا كان من المشروع، البدء بتفكيك آلياتها وهيمنة عقيدتها والسعي لإقامة منظومة تنموية بديلة، كما تساءل عما كان الاتحاد الاقتصادي العربي انطلاقاً من مصر وليبيا وتونس وامتدادا إلى دول المشرق- المغرب العربية مجرد وهم او حلم؟