الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


سببياتُ انهيارِ الوعي التحديثي

تاريخ النشر : الأحد ١٥ يناير ٢٠١٢

عبدالله خليفة



تعطينا مصر في نتائج انتخاباتها شكلاً ملموساً آخر لانهيارات الوعي العربي الشعبي السياسي واتجاهاته للطائفية المحافظة، وبدء تفكيكِ كيانات الدول وهياكلها العميقة الداخلية.
قرنٌ من التحديث المُسمى ليبرالياً علمانياً انهار، وهو فيه لمحات وامضة فقط من الليبرالية والعلمانية والديمقراطية، ولكن لا علاقة للعالم العربي بالليبرالية والعلمانية خلال تطوره السابق.
البناءاتُ الصناعية والتحولية التي أقامها النظامُ العسكري أسستْ لهذا الانهيار، ونجد تجلياتها في الانتهازية والصمت والتحلل للقوى اليسارية والليبرالية القديمة.
فالبناءات النهضوية أُقيمتْ على مركزية استبدادية فاسدة، ولكن أين القوى الديمقراطية تكشفُ وتحلل وتعري هذا؟
لقد اتخذت جانبين، في البدء رفضتْ الوثوبَ العسكري على السلطة، ثم تحالفت معه من دون استقلالية سياسية وفكر نقدي مغاير. التحالف مطلوب مع نظام نهضوي ولكن عبر المطالبة بالديمقراطية وبتوزيع الثروة الوطنية.
الصمت عن النقد لا يعني سوى المشاركة في كعكة المسروقات الحكومية، وهذا أدى ليس إلى تحالف ديمقراطي متنوع، بل إلى هيمنة بيروقراطية وهذا ما جرى في الدول العربية كذلك.
ونحن الآن ندفعُ الأثمان لسياسات النقد الكلي والمعارضة المطلقة ثم الذوبان في الأنظمة أو في الاتجاهات الدينية الطائفية.
لعبت سياسات تكسير الرؤوس الوطنية واليسارية أدوارها في تهشيم حالات التنوير والليبرالية الوامضة، وأفكار هذه الجماعات أفكار صغيرة صُنعت بصعوبات جمة داخل الأنظمة العربية المتخلفة المحافظة.
حين يخرج صنع الله إبراهيم من السجن الناصري يكتب روايات عن رائحة السجن الذي غادره، وليس عن السجن كجزءٍ من بنيةٍ اجتماعية شمولية كبرتْ وتعملقت فوق رؤوس الناس، رواية (تلك الرائحة) أصداء لعالم السجن حين يمشي المثقف وهو مكسور الرأس في النظام الوطني (الثوري)، ثم يكتب عن السد العالي، ليس ليجمع بين الثنائية المتضادة بين التنمية وقمع الإنسان، بل ليشكل تسجيلات يومية مقطوعة السياقات بالزنزانات والكبت وصياغة الصحف المقطوعة الألسنة.
جمال الغيطاني بدأ بداية جيدة في (الزيني بركات) الذي يكشف نمو أجهزة المخابرات وسيطرتها على الحياة، لكنه بعد ذلك في حارة الزعفراني جسّدَ أن العقمَ ضرب الرجال، وهاجت النساء من دون ذكور وفحول، فحول أزمةَ القمع إلى سببيات تجريدية مطلقة لا تعود إلى الظروف التي ديس فيها الرجال!
ثم ذهب للتصوف ومخاطبات الأقطاب خارجاً بشكلٍ واسع عن تحليل الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية ونقد تضخم الدكتاتورية.
يوسف القعيد كان أقرب الروائيين في زمن الناصرية للناس، بعرضه الواقعي التسجيلي لعذاباتهم وفقرهم ومهانتهم، لكنه فوتغرافي جزئي، يعرضُ بؤسَ الشعب لا نضاله واعتراضه، يعرض تقزم الإنسان لا شموخه.
ولعبت الأفكار النظرية والسياسية دورها في تضييع خطوات النخب والكتاب، فرفعت السعيد ومحمود أمين العالم يكتبان عن نظام اشتراكي، لا عن رأسمالية دولة غير ديمقراطية، تشكل رأسمالية سوداء في الباطن.
هذه عيناتٌ عن عقول مصرية كبيرة، وهناك عينات مماثلة عديدة في العالم العربي الكثير منها مهد لأرضنا المحروقة.
وقد توجه الاخوان عبر سيد قطب لتشكيل دكتاتورية متخلفة طائفية، لم تنجح بسبب وجود نخبة ليبرالية مصرية تكونت بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن النخر الذي حدث في رأسمالية الدولة الهائلة التي شكلها الضباطُ (الأحرار) جعل الجماهير تعود إلى الأفكار الدينية المحافظة، وهذا مظهر جلي في الدول كافة التي ضخّمت رأسماليات الدول من روسيا حتى كوبا.
والنتائج التي ترتبت على ذلك هي تفكيك الدول على مراحل حارقة، سواء الاتحاد السوفيتي أو السودان أو اليمن، ونحن العرب في هذا المصير المتصاعد حروباً طائفية وتنظيمات متخلفة تستغل الإسلام، تستغل وعي البسطاء للوثوب على الحكم بكل الأشكال المتاحة.
سوف تتوسع الحرائق السياسية والاجتماعية، وإذا كانت الأطراف كالصومال والسودان ولبنان والعراق قد بدأت رحلة الألف ميل نحو جهنم فإنها الآن تدخل في قلب العروبة، في مصر وسوريا، لتفجر العالم العربي كله.
دائماً يعدوننا بأفضل الوجبات في بدء الاحتفال، لكنهم ينسون هذه الوعود بعد استيلائهم على الأموال العامة.