أفق
ثقافةٌ تحبو على الرمال المتوهجة
تاريخ النشر : الثلاثاء ١٧ يناير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
لايزال العديد من الأجهزة في منطقة الخليج تعيش في عصر ما قبل الديمقراطية، خاصة الأجهزة الثقافية.
ثمة وزارات ومؤسسات في بلد ما تنفخ في كُتابِ قصة ورواية وشعر وتصدر عنهم الدراسات الكثيفة وكأنهم من الحاصلين على جوائز عالمية، في حين ان علاقتهم بالثقافة انتهت منذ زمن بعيد، وقد جفت قرائحُهم وصدأت أقلامهم!
كل هذا من أجل النفخ في هذه المؤسسة أو تلك، وتصوير هذه البلدة بأنها حضارية عظيمة، في حين ان أي زائر سوف يكتشف عدم وجود هؤلاء (المبدعين) وأن البلدة تتعكز وتنفخ في ذاتها السياسية وتوهم العالم بأنها متحضرة متقدمة تبز البلدان الأخرى احتفاء بالثقافة!
والثقافة تحتاج هنا إلى بحث موضوعي لمعرفة أسباب جمودها وليس عبر دفن الرؤوس في المجلات الملونة.
وبلدة أخرى تقيم مهرجانات احتفالية باذخة بالثقافة تصرف عليها من أموال الناس، وربما كانت الحوارات عميقة في بعض الأحيان، وربما كانت الأسماء مهمة، ولكن أغلبها ذات موضوعات مثلجة، لا تخص حياة الشعوب وقضاياها الساخنة في المنطقة، ولهذا فإن الجمهور لا يحضر هذه الاحتفالات ولا يتابع المناقشات، وهو بحاجة إلى تطوير مؤسساته الثقافية المحلية أولاً، وبناء مكتبات في المدن والأحياء، التي تتعكز على تبرعات المحسنين لصبغ جدران أنديتها والتبرع بكتب لمكتباتها المهجورة من الرواد.
مثلما أن مبدعي هذه البلدات يستقطعون من أكلهم وإيجارات سكنهم من أجل أن يطبعوا كتاباً، أو يصدروا دراسة تهم هذه المنطقة وتسكتشف سبل تطورها، لكن كيف يصلون إلى مسئولي الثقافة المشغولين بالضيوف الأجانب؟ وكيف يطور هؤلاء المسئولون النتاجات المحلية وأنواع القصة والشعر والرواية والمسرح والفنون التشكيلية وهم لا يلتفتون إلى هذه النتاجات ويريدون تقزيمها وتهميشها؟!
هنا نقرأ التضاد الغريب بين مواقف بعض المسئولين في دول الخليج، ففيما بلدات تشجع بأي شكل قلامة ظفر من نتاج البلدة وأهلها، وتضفي عليها أبعاداً كبيرة وتحرض الدارسين على نقدها الرفيق بها الداعم لها فتظهر بأبعاد ليست فيها غالباً وتخصص مجلات أدبية وثقافية لمتابعة هذه النتاجات والأسماء، فيما بلدات أخرى تهيل ركام النسيان على إنتاج مثقفيها، وتخلو (مجلاتها) الأدبية من الاهتمام بما هو وطني وعربي خليجي، ولا تبدو لها سياسة أو رؤية تجذر ما هو محلي وتطوره خاصة مع كثرة اختناقاته!
لايزال هؤلاء المسئولون يعيشون في زمنية البيروقراطية التي تقرر كل شيء، وفيما الآثار الوطنية محبوسة تحت الرمال ومسورة بالأسلاك الشائكة تنتظر رحمةَ الميزانية التي لا تجيء، ينشغلون بالمهرجانات الخارجية والداخلية بشكل مبالغ فيه.
ومن الواضح ان النشر تدهور لحد كبير، ويَئس الكتاب من مساعدة وزارات الثقافة والإعلام، التي انغمرت في الأعمال السياسية وصارت ملاحق لوزارات أخرى.
ورغم أن المملكة العربية السعودية ليس فيها وزارة ثقافة لكن الأندية الأدبية المتعددة لعبت دوراً كبيراً في دعم الثقافة وطبع النتاجات وتسويقها عبر التعاون مع دور نشر فعالة لبنانية. فنلاحظ هذه الهبة الثقافية الكبرى في المملكة وضخامة نتاجات الأجيال الشابة خاصة وتنافسها في ذلك، ووصلت مطبوعات الرواية والشعر والقصة القصيرة والنقد والبحث إلى المئات في كل سنة، وقد دعم هذه الإصدارات وجود جرائد يومية عربية عالمية هي جزء من المملكة فساهمت في تسويقه عربياً وعالمياً!
ضعف الاقبال على الكتب، وعدم الترويج لها، وللثقافة بشكل عام في أجهزة البث الفضائي خاصة، وعدم تداخل الأدب والفنون بالأفلام التي تلعب دوراً مركزياً في الترويج، وضعف مشروع النشر الكويتي النهضوي الكبير السابق الذي لعب دوراً تنويرياً رائداً عربياً، وتفجر الأحداث السياسية وانخراط الشبيبة في النشاطات العادية السهلة الطافحة فوق وجوه الحياة المتبخرة، كل هذا وغيره ألقى بظلال سوداء على النمو الثقافي الواعد في العديد من دول المنطقة.
الثقافة هي سوق ابداعية، تحتاج إلى مستهلكين لابد أن يكون عددهم مشكلاً سوقا فعلية، وهذا ما يمكن أن يعطيه عدد سكان يبلغ عشرين مليونا كالسعودية، يمكن أن تظهر من بينه عدة آلاف تشتري وتتابع فتغدو شريكة للإنتاج مغذية له، وهي ذات دخل جيد عادة، فيغدو الكتاب سلعة مهمة لديها لا تقل عن مواد الغذاء، وهو سلعةٌ باقية لا تنفد ويحرك القدرات العميقة الخالدة في الكائن البشري العابر.
إن غياب سياسة ثقافية على مستوى دول الخليج وعدم اهتمام العديد منها بالكتاب وبالثقافة الوطنية، وعدم مناقشة قضايا الثقافة والعلوم والفكر وغيرها في الاجتماعات الكبيرة، وغياب دور نشر قوية راسخة في هذه المنطقة، وغياب استراتيجية تصنيع الكتاب ووسائل انتشاره، تضيف فوق ضعف الثقافة وهي تزحف على رمال الجزيرة العربية أشعة حارقة.