الجريدة اليومية الأولى في البحرين


دراسات


قراءة في تقرير المعهد الملكي للدراسات الدولية البريطاني حول سياسات الطاقة في السعودية

تاريخ النشر : الثلاثاء ١٧ يناير ٢٠١٢



لا شك أن المملكة العربية السعودية أصبحت اليوم في مكانة يصعب فيها الحديث عن سوق النفط العالمية من دون الحديث عن أوضاع القطاع النفطي بها، خاصة أنها أصبحت للعالم رمانة الميزان النفطي؛ حيث تسعى دومًا إلى تثبيت هذه السوق إزاء أي اضطرابات اقتصادية أو سياسية تغير من مستوى الإنتاج وتؤثر في الأسعار، وقد حذر البعض مؤخرًا من أنه إذا ظل الاستهلاك السعودي للنفط على مستوياته الحالية ووفق الأنماط السائدة، فإنه سينفد في غضون أقل من 20 عاما، ولاسيما أن المملكة تحرق ما مجموعه 3,2 ملايين برميل يوميا وستحتاج إلى 8 ملايين برميل يوميا بحلول عام 2028، ما يعادل إنتاجها الحالي من النفط تقريبًا.. مما يحول المملكة من أكبر الدول المصدرة للطاقة إلى دولة مستوردة لها.
وحول تلك القضية جاء تقرير المعهد الملكي للدراسات الدولية الصادر قبل أيام من انتهاء عام 2011 حول «أزمة الطاقة في المملكة العربية السعودية»، حاملاً معه العديد من التحذيرات للمملكة وللعالم، حيث يشير إلى أن مسار المملكة الحالي في إنتاج النفط لن يدوم طويلاً، في ظل تزايد الطلب المحلي وافتراض ثبات نسبة الاحتياطي التي قدرت بنحو 264 مليار برميل، وثبات الإنتاج عند تسعة ملايين برميل يوميا.. ما ينذر بلا شك بالمزيد من المشاكل للاقتصاد العالمي، الذي مازال يعتمد على النفط بشكل كبير؛ حيث سيعاني إذا عجزت المملكة عن الحفاظ على القدرة التصديرية للنفط.
وتنبع أهمية ما تضمنه هذا التقرير من تحذيرات وتوقعات، من كون «المعهد الملكي للدراسات الدولية»، في لندن، المصدر للتقرير، هو معهد عالمي رائد للتحليل المستقل، وتتمتع إصداراته بمحتوى واعٍ من الأفكار المؤثرة حول كيفية بناء عالم مزدهر وآمن للجميع. كما يمتلك فريقا بحثيا من كبار المستشارين من ذوي الخبرة القادرة على إيصال أفكارهم إلى أعلى المستويات في المملكة المتحدة والخارج.
وبالتالي فإن التحذير الذي حمله التقرير، من أن وضع المملكة العربية السعودية في سوق النفط العالمية مهدد في ظل الاستهلاك المحلي المفرط للوقود، ولاسيما في ظل ارتفاع الطلب المحلي على الكهرباء بنسبة 8% سنويا، ومن المتوقع أن يبلغ ثلاثة أضعاف الاستهلاك الحالي، أي أن يرتفع إلى 121 ألف ميجاواط بحلول عام ,.2032 كما أنها من دون وجود أنهار أو بحيرات، تواجه تحديات في مواكبة زيادة الطلب على الطاقة وتحلية المياه لغايات الاستخدام المنزلي أو الصناعي، ويرى معدو التقرير أن عدم وجود توجه سياسي لإدارة الاستهلاك، لعب دورًا ما في زيادة الطلب المحلي، ولاسيما أن السياسة التي يتم اتباعها بشأن الطاقة تركز بشكل تقليدي في التنقيب والإنتاج، وإدارة الحصص الإنتاجية، والطاقة الفائضة، والعلاقات الخارجية مع الدول المستوردة، وتحديد أسعار الإمدادات المحلية من النفط والغاز، وذلك كما هي الحال في العديد من البلدان الأخرى المصدرة للنفط.
وهذا يعني أن قدرة المملكة على تحقيق استقرار في سوق النفط العالمية من خلال التحكم في حجم الصادرات صعودًا أو هبوطًا، وفقًا لاحتياجات السوق، ستشهد خللاً نتيجة تآكل الاحتياطي النفطي السعودي، وخاصة في ظل فشل الآخرين ممن لديهم احتياطي للنفط، أمثال إيران والعراق في الاستثمار بنحو كاف في القدرة الإنتاجية، مما يعني حدوث نقص في الإمدادات النفطية للسوق العالمية، وبالتالي ارتفاع في الأسعار، بل قد يتطور الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، أي إلى حروب عالمية بسبب الاستحواذ على المنابع النفطية حول العالم.
وبطبيعة الحال، أن عجز القدرة التصديرية النفطية للمملكة سيعني لها الكثير على المستوى المحلي، وخاصة في ظل اعتماد المملكة بشكل أساسي على العوائد النفطية في حفز مجالات اقتصادية عدة بالمملكة، حيث أسهمت في إحداث تكامل رأسي في الصناعات والخدمات المساندة للقطاع النفطي، مثل (التكرير المتكامل والبتروكيماويات والبلاستيك وغيرها)، وبالتالي إحداث تنويع إنتاجي، وهو ما كان يكسب المملكة «ميزة تنافسية» باعتبارها دولة منتجة للطاقة بكلفة منخفضة تخصصها في بناء مغزى وطني من خلال توفير فرص العمل والصادرات والتنويع الاقتصادي.
كما أنه وفقًا لمسار «العمل كالمعتاد»، انها ستصبح دولة مستوردة للنفط بحلول عام 2038، وخاصة في ظل الزيادة السكانية المتزايدة بشكل سريع، التي وصلت إلى نحو 27 مليون نسمة، وهو ما يعرضها لأن ينزلق حسابها المالي لعجز مستعص وتصبح معتمدة على الديون بنحو متزايد لدعم النفقات الحكومية في الداخل وسداد قيمة الواردات، أو أن تقوم بإجراء بعض التخفيضات الجذرية في الإنفاق، وهو ما قد تكون له عواقب خطرة على الأمن الاجتماعي بالمملكة.
وفي ظل تلك التوقعات القاتمة التي حملها التقرير، إلا أنه أكد الجانب الآخر، أن السلطات السعودية أدركت هذا الوضع، واتجهت إلى التخطيط لتقليل الاعتماد المحلي على الوقود الأحفوري وتطور بديل له، حتى لا تصل المملكة إلى الوقت الذي لن تتمكن فيه من تصدير النفط. وبناءً عليه فقد قدم قطاع الطاقة الكهربائية بها إمكانيات أكبر لإصلاح الأسعار المنخفضة للطاقة، التي تسببت في زيادة الاستهلاك المحلي إلى حد كبير، حيث بدأت زيادة أسعار الكهرباء بشكل تدريجي، ففي يونيو 2010، أعلنت ارتفاع الرسوم بالنسبة للقطاعات الحكومية والتجارية والصناعية، ويتوقع لهذه الزيادة في نهاية المطاف أن تكون ما بين 25-30% على ما كانت في السابق لكل كيلوواط.
كما تم إطلاق البرنامج الوطني لكفاءة استخدام الطاقة عام 2002، وذلك بهدف القيام بتغييرات هيكلية وسلوكية في السوق، مما يؤدي لزيادة الاعتماد على التكنولوجيات الموفرة للطاقة، وأصبح هذا البرنامج تحت مظلة مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتكنولوجيا في عام 2011، ويعمل حاليا على إمكانية تحقيق أهداف سياسية شاملة مثل الطاقة المستهدفة بكثافة.
وفي إطار السياسة المتبعة لتخفيض استهلاك الطاقة، أشار تقرير لشركة الكهرباء السعودية في يونيو 2011 إلى أنه سيتم أول مرة تخفيض ساعات العمل الحكومي، والحد من أوقات افتتاح المراكز التجارية الكبيرة مثل مراكز التسوق إلى سبع ساعات، ولكن اعتبر التقرير أن هذا يعد تكتيكًا صادمًا بدلاً من أن يكون اقتراحًا واقعيٌّا للحد من الاستهلاك المفرط.
وفي ابريل عام 2010 أعلنت مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة، التي تم إنشاؤها بموجب مرسوم ملكي، أن تطوير الطاقة الذرية أمر ضروري لتلبية الاحتياجات المتزايدة في البلاد للحصول على طاقة لتوليد الكهرباء وتحلية المياه وتقليل الاعتماد على الموارد الهيدروكربونية.
ورغم تلك الجهود، فإن معدي التقرير يرون أنه حتى وقت كتابته، لم تقم الحكومة حتى الآن بصياغة دوافع شاملة تجعل الاستثمارات الوطنية في إنتاج الطاقة البديلة مجدية تجاريا، كما أن تلك المبادرات جاءت متأخرة حتى تسمح للمملكة بتحويل اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد عوائد النفط، وأن تكون على مسار مستدام. كما يرون أن تركيز الحكومة في المطلق ينصب على إضافة المزيد من الإعانات والدعم لقطاع لنفط بدلاً من التركيز في تقليل الطلب؛ حيث يشير الواقع إلى نمو الإنفاق الحكومي بشكل أسرع بهدف الحفاظ على الأمان الاجتماعي، ولاسيما أن الفئات ذات الدخل المنخفض ستتأثر بالسلب، في حال تم رفع الدعم أو تقليله؛ إذ تعتمد سبل معيشتهم على استخدام كم كبير من النفط في الأغراض الأساسية، مما يعني أن ارتفاع الأسعار قد يؤثر في قدرتهم على دفع كُلَف الضروريات الأخرى، ما قد يطرح العديد من المخاطر الاجتماعية داخل المجتمع السعودي.
ولكون السياسة السعودية الحالية غير متناسبة مع الحاجة الملحة لكبح الطلب المتزايد على الطاقة المحلية، ولاسيما في ظل وجود عدد من التحديات، التي تتضمن:
} العلاقة بين العودة إلى تاريخ الأسعار النفطية المنخفضة والمصالح الشخصية من بقاء الأسعار منخفضة.
} إدارة عملية التحول إلى أسعار نفطية أعلى، وبالأخص بالنسبة إلى الفئات ذات الدخل المنخفض.
} إقناع العامة بأن هذه التدابير تعد ضرورية حتى في ظل وجود احتياطيات من النفط والغاز وفيرة جدا.
ولأن المملكة لا تحبذ الحد من استخدام الوقود الأحفوري بشكل قد يحد كثيرًا من النمو الاقتصادي والاجتماعي، بل إن الهدف هو تزويد السوق بالنفط للمساعدة على التنمية والرخاء الاقتصادي، مع تحسين الأداء البيئي للنفط من خلال البحث والتطوير المستمرين، والمساهمة في تنويع مصادر الطاقة من خلال تطوير الطاقات المتجددة.
ويوصي التقرير بضرورة وضع هدف شامل لتكثيف الطاقة، بما يمكن كل قطاع من وضع الأهداف العملية، وتحديد عدد من التدابير بهدف الانتقال السلس إلى أسعار أعلى للطاقة، وخاصة في ظل بقاء العالم معتمدًا على الوقود الأحفوري على مدى السنوات الخمسين المقبلة، فبالتحول من معيار الكفاءة إلى عامل الاستدامة، سيبقى النفط السعودي قادرًا على اجتياز اختبار الطاقة الذكية، من خلال التقدم العلمي والتقني، والممارسات الأقل هدرًا، وتحسين كفاءة استخدام الوقود.
وفي الوقت نفسه تتمكن الصناعات الخاصة من الربح اقتصاديا بسبب إجراءات تحسين كفاءة الطاقة (خاصة عندما ترتفع أسعار الطاقة)، وبذلك سيتولد لديهم حافز قوي لتحقيق ذلك. ولكون زيادة أسعار الطاقة على المستوى المحلي أمرًا صعبًا سياسيٌّا، لابد من تحضير المجتمع من خلال مجموعة من الإجراءات الخاصة بالكفاءة، والتثقيف بأن استخدام التكنولوجيا سيوفر الطاقة بأسعار معقولة للذين يحتاجون إليها بشدة