الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٥٣ - الأربعاء ١٨ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٤ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


هل أصبح الإيمان بشرعية «الربيع العربي» هو «الفريضة الغائبة»؟





هل أصبح الإيمان بشرعية الربيع العربي هو الفريضة الغائبة؟ لقد لاحظنا مؤخرا توجه الكثير من وسائل الاعلام العربية وبعض الكتاب المحليين لتصوير ما حدث في الساحة العربية في السنة المنصرمة كأنه حدث تاريخي منفصل عن المحركات الخارجية، بل وصل الأمر إلى وصف احدهم بأن من يتحدث عن تدخلات أمريكية او غيرها انه اهانة للشعوب العربية على الرغم من ان العكس هو الصحيح. ان عدم الحديث عن المخططات الغربية والايرانية هو أكبر اهانة ممكن توجيهها للشعوب العربية التي يتم اخضاعها للأوضاع اللاإنسانية الحالية بالزعم بأن هذه الأوضاع من رغبتها الخالصة تارة أو من تحقيق شرعيتها الدينية والسياسية تارة أخرى. وفي حال فشل جميع هذه المسوغات فلا مانع من اللجوء الى الخرافات واقناع الشعوب العربية المؤمنة بطبيعتها بأن الإيمان بالغيب هو ذاته الإيمان بالغيبيات الخرافية، وان الايمان بالقدر يتساوى مع الايمان بالمنجمين ولا مانع من الزعم بأن نبوءات العرافين مثل نوستراداموس أو روزنامة الانكا في التكهن بنهاية العالم هي ذاتها علامات الساعة، في إلغاء واضح للعقل ومخالفة لصريح الدين بكذب المنجمين ولو صدقوا، وما جاء عن بطلان صلاة من جاء عرافا.

لا يحتاج المرء إلى الخيال حتى يستوعب أنه من غير المعقول بل من غير المنطقي ان تحدث الثورات «الشعبية» في بلدان مختلفة الظروف السياسية والاقتصادية والتاريخية بهذا التوقيت المتزامن، من دون ان يكون هناك من يقودها وخاصة في ظل منهجيتها المتماثلة وهيكلتها القيادية المتطابقة. كما انه من أبعد ما يكون عن المنطق ان تتحرك دول كبرى بالعدة والعتاد الحربي الثقيل لنجدة شعوب المنطقة ولو كانت سياسات هذه الدول قائمة على ردود الافعال لتغير وجه التاريخ.

ان هذا الاصرار له عواقب وخيمة وخطورته تكمن في نقاط عدة: الاولى الاعتراف التلقائي بكل ما نتج عن هذه التحركات بصفته نتاج رغبات شعبية خالصة. والثانية حصر ردود الفعل تجاه الشخصيات المقيمة داخل حدود تلك البلاد مما ينتج عنه بالضرورة من تمزق داخلي وحماية تلقائية للدول المحركة للأحداث من الخارج وهو النتيجة الحتمية للتدخل العسكري كما حصل في العراق وأفغانستان.

كما ان هذا الانكار يبدو غريبا في ظل اعتراف الدول الغربية نفسها بتدخلها في المنطقة. في خطابه عن ميزانية الانفاق للعام الجديد، تحدث رئيس الوزراء البريطاني كاميرون عن امكانية خفض نفقات الدفاع في ظل الدرس المستفاد من حرب ليبيا، وكان خطاب الرئيس الامريكي باراك أوباما مؤخرا أشد وضوحا حين قال انه سيتم خفض القوات الأرضية لتوفير مليارات الدولارات، وإن التنسيق بين القوات المحلية على الأرض والاسلحة التكنولوجية من دون طيار أثبت انه سياسة ناجحة لأمريكا في حرب ليبيا ويمكن ان تعتمد كصيغة للحروب المحدودة التي تنوي أمريكا خوضها في أوضاع مماثلة في المستقبل. مرة أخرى، لا يحتاج المرء إلى ان يكون خبيرا عسكريا حتى يعترف بأن قوى كبرى مثل أمريكا وبريطانيا لا يمكن ان تترك خياراتها العسكرية الحساسة معتمدة على محاسن المصادفات، ولا يعقل ان تدع مستقبلها العسكري رهينة أهواء قوى برية تأتمر بأمر قوى سياسية مجهولة الاتجاه والتوجه. واذا كنا سنرى الدرس الليبي بوضوح فإنه نسخة محسنة من الدرس العراقي مع التعديلات اللازمة التي يفرضها الانسحاب الغربي من أفغانستان والعراق.

بل قبل ذلك لم تخف أمريكا وحلفاؤها الاقليميون تدخلهم السافر لتحريك الاحداث، فمثلا في عدد مجلة «تايم» الامريكية الصادر في السابع عشر من فبراير من السنة الفائتة تحدث الكاتب بوبي جوش في مقالته المعنونة «الغضب، موسيقى الراب والثورة: داخل زلزال الشباب العربي» عما صرح به مسئول في الخارجية الامريكية بأن «الشريحة الشبابية في المنطقة أصبحت تمثل اهتماما أساسيا للسياسة الامريكية في الآونة الاخيرة»، وأضاف «ان تمويل التواصل مع هؤلاء الشباب ازداد في السنوات الاخيرة، وان ما تنفقه الولايات المتحدة بصورة سنوية «لدعم» الديمقراطية وتطوير الحكم في العالم العربي يفوق ٢٥٠ مليون دولار التي انفقتها في السنوات من ١٩٩١ الى ٢٠٠١ مجتمعة».

بل أضاف «ان الكثير من هذه البرامج ــ أي التي أقامتها الولايات المتحدة ــ يعمل عمدا بصورة غير لافتة للانتباه لأن ارتباط هذه البرامج علنا بالولايات المتحدة قد يكون ضارا سياسيا نوعا ما للمشاركين فيه». فبحسب ايثان زوكرمان: «من الصعب حقا لمعظم الناس في العالم العربي ان يعملوا سياسيا بصورة مباشرة مع الولايات المتحدة». وزوكرمان هو احد مؤسسي الأصوات العالمية وهي شبكة عالمية من المدونين والصحفيين المواطنين التي استضافت مؤتمرات اقليمية للمدونين العرب قبل الربيع العربي.

اللافت ان مقالة جوش ظهرت في السابع عشر من فبراير من السنة المنصرمة في عدد مجلة التايم الامريكية رقم ١٧٧ المجلد ٨، التي حمل غلافها صورة لشباب عرب بعنوان: «الجيل الذي يغير العالم». وبملاحظة ان هذا العدد صدر بعد ثلاثة أيام فقد من بدء أحداث فبراير فإن المقالة كانت تتحدث بوضوح عن «ثورة بحرينية» بل ضمنتها مقابلات مع هؤلاء «الثوار». وإذا سألت شخصا لديه أدنى معرفة بالعمل الصحفي فإن صدور مجلة ــ ليست جديدة ــ وتوزيعها لتكون متوافرة للبيع بتاريخ ١٧ فبراير فهذا يعني ان هذه المقابلات تمت بالضرورة قبل الثورة المزعومة بأسبوعين على الأقل.

الحديث عن التدخلات الاجنبية يقود بالضرورة إلى ما يحدث على الساحة الاقليمية حاليا. البعض يجد ان الاعتراف بالتدخل الأجنبي لتحريك ثورات مشبوهة يلقي بظلاله السلبية على تحركات اقليمية قد تكون على درجة عالية من الشرعية مع ان العكس هو الصحيح. ان القيام بتحريك ثورات مزعومة بالتزامن مع ثورات شرعية هو أفضل طريقة لخلط الأوراق والتلاعب بالنتائج الطبيعية لمجريات الأمور.

البعض من ناحية أخرى يستغرب الاعتراف الصريح أحيانا والضمني أحيانا أخرى من دول الخليج العربي بهذه الثورات المشبوهة وهي أي دول الخليج التي اكتوت بنيرانها ولاتزال! ولكن قيادات الخليج أثبتت نضجها السياسي بالتفريق بين الشرعية السياسية والشرعية التاريخية. ان الحلم الامريكي بـ «الشرق الاوسط الكبير»، الذي ابتدأ مع الرئيس جورج بوش الابن، يقوم على فكرة ان الشرق الأوسط تاريخيا منطقة نزاع دائم. بالقبول أحيانا بالوضع السياسي القائم أو المعترف به دوليا يجنب المنطقة هذا النزاع المرجو، ويجنب الشعوب العربية الحروب الطاحنة التي بدأنا نرى أولى ثمارها للأسف في ليبيا وجمهورية جنوب السودان الوليد.

ان الإعلام الغربي عموما والامريكي خصوصا يصور الأمر كأنه مواجهة وشيكة بين أمريكا وايران بينما الحقائق على الأرض تتحدث عن واقع مغاير تماما، ففي اشارة رمزية واضحة لتسليم العراق للحليف الايراني ليكمل ما بدأته امريكا، كان آخر قاعدة يقوم باخلائها الجيش الامريكي هي قاعدة «الإمام علي» المعروفة سابقا باسم الناصرية وتسليم رجل حزب الله المتورط في اغتيال جنود امريكيين «دقدوق» لحكومة المالكي. وبغض النظر عن ان الإمام علي كرم الله وجهه من أنقى أعراق العرب، فإن الرمزية الدينية لمذهب اسلامي تزعم الدولة الفارسية احتكاره تبدو واضحة، فالطريقة والتوقيت اللذان تم بهما الانسحاب بعد تسلم الحكومة العراقية الموالية لايران، يقصد فيهما تلميع الصورة الايرانية بصورة واضحة واظهارها أمام أتباعها وحلفائها بصورة الدولة التي استطاعت ان تهزم أمريكا.

وتبدو الصورة أوضح في أزمة الهاشمي الذي تطالب به حكومة المالكي ليكون موضوع القبض عليه حصان طروادة الذي تتمكن منه هذه الحكومة المحسوبة على ايران من تعطيل العملية الديمقراطية في العراق ليتم تمرير قرار جذري لا توافق عليه غالبية الشعب العراقي.

لقد كان من اللافت ان المتحدث باسم القضاء الأعلى في العراق، وعند قراءته بيان أمر القبض على الهاشمي ان سمى العراق جمهورية العراق الفيدرالي، وهكذا بلفظ واحد تم تمرير قرار تقسيم العراق بعيدا عن اي شرعية سياسية أو شعبية حتى من دون أي تعليق من وسائل الاعلام.

وبالمقابل نجد ان معارضة الخارج السورية تلح على ان الممرات الآمنة هي الحل الأوحد للأزمة السورية في تغييب واضح لثوار الداخل الذين يدفعون دمهم يوميا لاحقاق نوع من الشرعية تأبى أن تأتي الا مصحوبة بأحد القرارين إما التقسيم وإما الحرب الأهلية. وحماية المصالح الاسرائيلية الايرانية في كلا الحلين ظاهرة للعيان.

ان قيادات دول الخليج وفي بحر متلاطم من عدوان الداخل والخارج تمكنت بفضل من الله من ان تصل إلى ملاذ آمن. وبالرغم من كل الضغوط والابتزاز الدولي سياسيا واعلاميا كانت كمن يمشي على حد السيف، وبمزيج مذهل من الليونة أحيانا والصلابة أحيانا أخرى تجاوزت المرحلة الأولى من الأزمة التي سميت الربيع العربي تيمنا بتاريخ ساعة الصفر الموافق شهر ربيع الأول بالتقويم العربي وليس كما يظن البعض بفصل الربيع وما يتضمنه من ازدهار وعودة للحياة.

في بداية الأحداث التي هزت العالم العربي العام الماضي تحدث الصحفيون للمبعوثة الاممية الامريكية «رايسمان» عن الأوضاع في مصر، وابدوا قلقهم من عدم استقرار مصر بالنظر إلى خطورة موقعها الحساس لوجود قناة السويس وكان ردها بأنه ليس هناك من مخاطر وبأن أربع أو خمس سنوات من عدم الاستقرار في المنطقة لا تشكل تهديدا حقيقيا. من الواضح انها كانت تتحدث عن المصالح الدولية وليس عن شعوب المنطقة التي تزعم القوى الكبرى بأن التحركات العسكرية تتم بسببها، وفي حديث أوباما الأخير تحدث عن ان القوات الامريكية التي سيتم تقليصها في أوروبا وشمال افريقيا سيقابلها تعزيز للقوات في آسيا والشرق الأوسط. بالمقابل نجد روسيا تتحدث يوميا عن عدم سكوتها عن أي تدخلات دولية في الداخل الايراني ولكننا بالمقابل نجد صمتا مريبا عندما يكون التدخل ايرانيا في الشئون الداخلية لدول الجوار والمنطقة.

الواقع يتحدث عن مسابقة تكسير عظام بين الدول الكبرى في المنطقة لا يدفع فاتورتها سوى شعوب المنطقة. وإذا كانت الحنكة السياسية تحتم القبول بأوضاع معينة فليس بالضرورة اصباغ الشرعية التاريخية عليها. مؤخرا لاحظنا هذا الإلحاح يتزامن مع إلحاح يكاد يصور النظام الديمقراطي بصورته الغربية كأنه الحل السماوي الوحيد الذي يمكن قبوله، بل وجدنا شخصيات ثورية مثل الغنوشي رئيس حزب النهضة التونسي وتوكل كرمان الفائزة بجائزة نوبل يتحدثان عن الحكم بـ «الديمقراطية والحكم الرشيد» في خلط متعمد لمفهومين سياسيين متناقضين لأي عالم بالسياسة، ومحاولة اضفاء شرعية دينية وحتمية تاريخية على نظام هو في حقيقته اختراع بشري محسوب على الغرب يجب ان يكون لشعوب المنطقة حرية قبوله أو رفضه بما يتناسب مع طبيعة هذه الشعوب التاريخية والحضارية والثقافية.

إن السنوات القادمة قد تكون حساسة وحاسمة لدول الخليج وعلى شعوبها ان تكون بمستوى النضج السياسي الذي أبداه قادتها. الإسلام والعروبة لا يقبلان المساومة، وكذا ارثنا التاريخي والحضاري وحقنا في العيش برفاه والأسلوب الذي يناسبنا من دون املاءات خارجية او ابتزازات داخلية. الحل في ايدينا بأن نكون على وعي وإذا أتتنا وعود براقة ان نسأل أنفسنا من وراءها؟



.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    الأعداد السابقة