الجريدة اليومية الأولى في البحرين


خاطرة


النفس المجادلة

تاريخ النشر : الجمعة ٢٠ يناير ٢٠١٢

عبدالرحمن فلاح



وردت النفس الانسانية في القرآن الكريم بأوصاف متعددة، فهي نفس فاجرة، ونفس أمّارة بالسوء، ونفس زكية، ونفس تقية، ونفس لوّامة، ونفس مطمئنة، ونفس راضية، ونفس مرضية، وقد يظن الانسان أن بعدد هذه الأوصاف يكون عند الانسان عددها أنفس، وهذا غير صحيح، فالنفس الانسانية واحدة، وما ذكره القرآن الكريم هو أحوال هذه النفس مع أوامر الله تعالى ونواهيه، فهي مرة فاجرة حين تخرج عن منهاج الله تعالى، وهي مرة أمّارة بالسوء، وهذه حال ادنى من حال النفس الفاجرة التي تلطخت بالآثام، وتمرغت في المعاصي.
أما الحالات الاخرى فهي احوال تراوح النفس بينها وموكول امرها الى ارادة الانسان، وسعيه إلى الترقي بنفسه، والوصول بها الى اعلى المراتب التي يريدها الله لعباده الصالحين.
والقرآن الكريم يقرر ان هذه النفس لن تملك من امرها شيئا يوم القيامة، وان عليها ان تستفرغ سعيها وجهدها في الدنيا حيث عالم الاسباب والممكنات، أما حين ينتقل الانسان الى الدار الآخرة فانه لا يملك من الاسباب والممكنات شيئا وانما هو حصاد ما زرعه في الدنيا من خير أو شر: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره(7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)» (الزلزلة).
وفي بيان صريح يكشف الحق تبارك وتعالى عن الانسان غطاءه فيرى الحقائق كما لم يشهدها او يرها من قبل: «إن الأبرار لفي نعيم(13) وإن الفجار لفي جحيم(14) يصلونها يوم الدين(15) وما هم عنها بغائبين(16) وما أدراك ما يوم الدين(17) ثم ما أدراك ما يوم الدين(18) يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله(19)» (الانفطار).
لقد حسمت آخر آية من سورة الانفطار الأمر، وأغلقت باب الجدال الذي فتح في سورة (النحل) في قوله تعالى: «يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون» (النحل).
والجدال الذي تحدثت عنه هذه الآية من سورة (النحل) هو جدال بين احوال النفس، اي مثلا بين النفس اللوّامة والنفس الأمّارة بالسوء، أو النفس التقية والنفس الفاجرة، وان كل نفس تلقي باللائمة على النفس الاخرى، وترجع اليها سبب ما تلاقيه يوم القيامة حيث توفى كل نفس ما عملت كما نص على ذلك البيان الإلهي.
الله سبحانه وتعالى قد اودع في الانسان القابلية للترقي الى مدارج الساكنين اليه سبحانه، وبارادة الانسان الحرة يستطيع ان يصرف نفسه عن هواها، وان يفطمها عن شهواتها، ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
والنفس كالطفل ان تهمله شب على
حب الرضاع وان تفطمه ينفطما
نعم كلنا يملك هذه النفس، ويشقى في صرفها عما تحب وتهوى، وعلى قدر المشقة التي نعانيها في صراعنا مع انفسنا في احوالها كافة يكون الجزاء يوم القيامة، ولنقرأ البيان الالهي الرائع والجليل: «وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى(40) فإن الجنة هي المأوى(41)» (النازعات).
واذا لم يفعل ذلك، واطلق لنفسه العنان، فما هو مصيره؟
يجيبنا البيان الإلهي بقوله: «فأما من طغى(37) وآثر الحياة الدنيا(38) فإن الجحيم هي المأوى(39)» (النازعات).
إذاً أيها الانسان، لا تنتظر الآخرة لتجادل عن نفسك الأمّارة بالسوء أو الفاجرة، بل بادر في الدنيا وافتح مع نفسك هذا الحوار، وبين لها مواطن الخلل في حالها التي هي عليها او تريد ان تكون عليها، وان تصرفها عما تشتهيه وفيه تدمير لنفسك في احوالها الخيرة كالنفس التقية والزكية والمطمئنة الراضية والمرضية، وليكن لك في هذه الاحوال، والامكانات التي اودعها الله تعالى نفسك، والقابلية فيها على الصلاح، ليكن لك في كل هذا عدة وعدد تنجيك من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما ارضعت، وتضع كل ذات حمل حملها «يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه» (عبس 34 - 36).
فأمامك أيها الانسان، الفرص كثيرة، والامكانات متعددة، فعليك ان تستفيد منها ولا تضيعها، فانها ان ذهبت فلن تعود الى يوم القيامة، وسوف يأتي عليك يوم تعض فيه أصابعك ندما وحسرة على ما فرطت فيه من اصلاح لنفسك كنت تستطيعه ومن تفوق كانت سبله ميسرة وطرقه سالكة.
فاذا كنت تملك نفسا مجادلة قادرة على الحوار والاقناع، فلماذا تؤجل حوارك معها الى يوم القيامة حيث يسلب الانسان ارادته الحرة، وتطلق ارادة جوارحه المقيدة، فتشهد عليه بما لا يحب أن يسمعه؟ئ