قضايا و آراء
لماذا عمر ثانيا؟
تاريخ النشر : الأحد ٢٢ يناير ٢٠١٢
تحدثنا فيما سبق عن لماذا أبوبكر أولا؟ وقدمنا ما كان رضي الله عنه يتمتع به من مؤهلات وعقل راجح، وسداد رأي، وانه لا يصلح خليفة بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم من المسلمين في ذلك العصر غير أبي بكر رضي الله عنه مع وجود كبار الصحابة وفي مقدمتهم عمر وعثمان وعلي وغيرهم كثير، ولكن الأحداث والمواقف أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن من بين هؤلاء العظام كان أبوبكر الحائز العلامة الكاملة في مؤهلات الخليفة الذي يتقدم غيره.
واليوم نحن على موعد مع السؤال الآخر وهو: لماذا عمر ثانيا؟ ولا بد أن يكون عمر ثانيا بعد أبي بكر ولا يأتي غيره في هذه المنزلة حتى ان بلالا رضي الله عنه لما أمره رسول الله صلى الله عليم وسلم وهو في مرض وفاته بأن يأمر أبابكر بأن يصلي بالناس نيابة عنه مع انه كان في المسلمين عمر وعلي وعثمان ومعاذ وعبدالرحمن بن عوف وأبوموسى الأشعري والعباس وغيرهم كثير، ولكن هذا الاصرار من رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يكون أبوبكر هو نائبه صلى الله عليه وسلم في الصلاة اشارة فهمها المسلمون ومنهم الإمام علي حين سمع الناس يتكلمون على خلافة أبي بكر قال لهم: لقد رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ بلال هذا حين لم يجد أبابكر قال لعمر: صل بالناس، فظن عمر أن هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم بعد ذلك أن المعني كان أبابكر، قال عمر لبلال: ماذا فعلت غفر الله لك؟ لقد ظننت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك بهذا، قال بلال: والله يا عمر لقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن آمر أبابكر، ولما لم أجده وجدتك أحق الناس بعده بهذا الأمر.
كأن المسلمين قد تمت تهيئتهم حول الشيخين: أبي بكر وعمر، ولقد أشار الإمام علي رضي الله عنه في موقف آخر حين حاول البعض الطعن في خلافته، فقال لهم: لقد بايعني من بايع أبابكر وعمر، كأنه رضوان الله عليه يستشهد على صحة خلافته بصحة خلافة الشيخين أبي بكر وعمر.
فلماذا عمر ثانيا؟
يتكرر السؤال والجواب هو: لأن عمر وكما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القوي الأمين، وما أحوج المسلمين الى رجل يجمع في ايهابه مثل هاتين الصفتين القوة والامانة! عمر هذا هو الفاروق الذي فرق الله تعالى به بين الحق والباطل، وهو الذي شهد له الصحابة بأن اسلامه كان نصرا، وهجرته كانت فتحا، وخلافته كانت رحمة.
هو الخليفة الراشد التقي والورع الذي كانت رعيته تسأل الله تعالى ان يزيد في عمره من أعمارهم، ذلك لأن عمر يعيش سنوات عمره للناس، بينما الناس كل يعيش سنوات عمره له هو.
كأنهم حين يسألون الله تعالى زيادة عمره من أعمارهم إنما يسألون الله ان يطيل من عمر العدالة والإنصاف والرأفة والرحمة.
الأمة في حاجة الى رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، رجل بلغ في العدل والإنصاف الغاية القصوى التي يبلغها الحكام الصالحون. رجل يهابه الشيطان ويتخلى عن طريقه، ولو رآه في طريق لسلك طريقا غيره.
عمر جاء ثانيا لأن الأمة بحاجة إليه، ولأن العدل والإنصاف والرحمة أخلاق تتجسد في شخصه وفي مواقفه.
لقد كان من عظمة أبي بكر انه اختار عمر خليفة من بعده، وقبل أن يختاره سأل عنه الصحابة فأثنوا عليه خيرا، وقالوا: إن باطنه خير من ظاهره.
ولقد أثبتت الأحداث والمواقف سداد اختيار أبي بكر وتوفيقه، وانه كان أعرف الناس بعمر وبقدراته وعظمة شخصيته.
وكانت سنوات حكمه رضي الله عنه عاشها للناس ولم يعشها له أو لأهله أو لولده، بل كان شديدا على أهله رحيما بالناس، ولقد حققت الدولة الاسلامية في عصره أعظم انجازاتها، وبلغت في العظمة والقوة مبلغا عظيما لم تبلغه دولة من الدول.
وكان عهده شامة في جبين الدهر، ولقد اتسم عصره بأعظم معاني العدل والإنصاف والمساواة والرحمة، وعاش الناس في عهده وتحت ولايته أنضر لحظات حياتهم، وأكثرها بركة، وأسخاها عطاء.
جاء عمر وكان لابد أن يجيء، وتولى الخلافة بعد أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وكان لابد أن يتولاها بعده، فهو أحق الناس بها بعد أبي بكر لأنه كان أصلح الناس للناس بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم وبعد صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه.
أعظم عمل قام به أبوبكر الصديق بعد اعادة الرشد الى الأمة هو اختياره عمر خليفة من بعده، فقد كان ذلك أعظم قرار وأكثره بركة ونفعا للأمة الاسلامية، حتى انها وكما قلنا كانت تتمنى أن يزيد الله تعالى في عمره من أعمارها ليستمر العدل والرحمة اللذان عاشوهما في عهده.
وأول مرة في التاريخ يضع الحاكم العيون والرقباء على الولاة وليس على الشعب ليرى حسن سيرتهم في الناس، وليتابع أداءهم لمسئولياتهم، فإذا صدر عن والٍ خروج على الشريعة، أو تجاوز لحدود الله، أنزل به أشد العذاب، وجعله عبرة لغيره من الولاة حتى ان واليا عظيما من ولاته وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه واليه على مصر قال له: لقد جرأت الرعية علينا يا أمير المؤمنين حين كان يجمعهم في مواسم الحج ويطلب إلى الناس محاسبة ولاتهم، فأكد عمر رضي الله عنه ان هذا هو نهجه ولن يغيره فمن قبل به فليصحبه ومن لم يقبل به فليفارقه، وإذا كان عمر شديدا في محاسبة نفسه وأهله ومن لهم صلة به، فهل يتهاون مع ولاته وهم المنفذون لسياسته، الأمينون على شريعة الاسلام والمحاسبون قبل أن يحاسبوا غيرهم؟
والمعلوم أنه إذا صلح الراعي صلحت الرعية، وفي فساده وإنحرافه عن صراط الله المستقيم فساد لهم وتنكب عن صراط الله المستقيم، وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكان عمر رضي الله تعالى عنه أسوة حسنة للولاة، ولمن تقلد شيئا من أمور المسلمين إذا أمرهم بأمر كان أول من يعمل به ويحمل أهله وخاصته على العمل به، وإذا نهاهم عن أمر كان أول المنتهين عنه، وكان يعاقب أهله وأولاده على الذنب مرتين: مرة لأنهم ارتكبوا هذا الذنب ومرة لمكانتهم من نفسه وهذا على خلاف ما يحصل الآن في العالم الإسلامي وحصل قبل الآن في عصور مختلفة أن أقرباء الحاكم ومن لهم صلة قرابة أو منزلة منه متميزون على غيرهم، وكان منهاجه في الحكم هو منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.
هذا هو الحكم العادل الذي لا يستثني أحدا، وهذه هي شريعة الله تعالى التي يتساوى أمامها الناس.
وذلكم هو الفاروق عمر بن الخطاب الذي فرق الله تعالى به بين الحق والباطل، وكان اسلامه نصرا للمسلمين، وهجرته فتحا لهم، وخلافته رحمة وعدلا وإنصافا، واستحق عن جدارة أن يكون الخليفة الراشد الثاني بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
فهل شفينا بإجابتنا هذه صدور قوم مؤمنين؟ وهل علمنا الحكمة العظيمة في مجيء عمر ثانيا في الخلافة بعد أن أثبت بما لا يدع مجالا لأدنى شك أنه أهل لها، والأحق بعد أبي بكر رضي الله عنه في تولي مهامها والبر بأهلها؟