جمال عبدالناصر في ذكرى ميلاده الـ ٩٤
 تاريخ النشر : الاثنين ٢٣ يناير ٢٠١٢
بقلم: معن بشور
بين القادة الكبار الذين تشتد حاجة شعوبهم إلى استحضارهم كرموز ونهج وخيار كلما ابتعد زمن رحيلهم، يبقى جمال عبدالناصر أحد الأكثر بروزاً وتألقاً بينهم.
وما من أمر يجسد تلك المقولة أكثر من ذاك الشعار الذي رفعه المصريون، بكل عفوية وصدق، يوم انطلاق ثورتهم المجيدة في ٢٥ يناير ٢٠١١ (وبعد أيام على ذكرى ميلاد قائد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢) والقائل «ارفع رأسك يا أخي فأنت مصري»، وهو شعار مماثل لما رفعته ثورة يوليو الناصرية مع انطلاقتها «ارفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستعباد».
والاستعباد لدى جمال عبدالناصر هو مصطلح يحمل في تركيبته كلمتي الاستعمار والاستبداد معاً، كما انه يستمد وهجه من ارتباطه بالقول المأثور للخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»، وهو ارتباط يكشف أيضاً عمق ارتباط الحركة القومية العربية بالتراث الإيماني والحضاري للأمة، مثلما يكشف عمق التزام هذا التراث بالمفهوم الأصلي لحقوق الإنسان وقد بات اليوم مفهوما عالميا.
ورفض الاستعباد ببعديه الاستعماري والاستبدادي جرى تأكيده في فكرة رئيسية ارتبطت بها أدبيات النهج العروبي الذي حمله عبدالناصر وهي فكرة التلاحم بين حرية الوطن وحرية المواطن، في استباق مبكر لرفض تلك المحاولات التي تريد باسم حرية الوطن أن تصادر حرية المواطن، كما تحاول أن تبدّد حرية الوطن باسم حرية المواطن، وأن تبرر لكل أشكال التدخل الخارجي بذريعة تحقيق «ديمقراطية» مزيفة تقودها عربة ذات جوادين: احدهما الحروب الأهلية القائمة على التحريض الطائفي والمذهبي والعرقي، وثانيهما الاستعانة بالقوى الاستعمارية.
لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أبداً أن تسارع القوى المضادة لثورات الشعوب وانتفاضاتها إلى أن تصوّر هذه الثورات كأنها قامت في مصر لتثأر من ثورة يوليو وتراثها لا لتسقط من انحرفوا عن مسار تلك الثورة وتوجهاتها، وأن ترى، كما فعل الصهيو - فرنسي برنار هنري ليفي «ان مأساة سوريا بدأت منذ قيام وحدتها مع مصر عام ١٩٥٨»، فسعى تلامذته إلى إسقاط علم الجمهورية العربية المتحدة، العلم السوري الحالي، واحلال علم ما قبل الوحدة مطلقين عليه اسم «علم الاستقلال» محله، متناسين أن استقلال سوريا كان استقلالاً عن فرنسا.
قد تبدو الذكرى الـ ٩٤ لميلاد جمال عبدالناصر هي مناسبة لاستحضار هذه المفارقات، ولتفكيك التناقضات المرعبة التي يسعون إلى زرعها في قلب حركات أصيلة لشعوب ثارت في وجه معادلة الفساد والاستبداد والتبعية، وتعميم ثقافة الثورة المضادة التي تسقط الركن الثالث من المعادلة أي التبعية، ربما لتوحي بأن مكافحة الفساد، ومقاومة الاستبداد، لا تتمان من دون العودة إلى «تبعية جديدة» تسهر على استعادتها قوى غارقة في الاستبداد والفساد معاً ومستخدمة قوة الأموال لتبييض صورة المستعمرين القدامى.
قد لا يشجع واقع الحركة القومية العربية الراهنة، أنظمة ومنظمات، على المواجهة الجذرية والشاملة لمشروع الثورة المضادة الساعي إلى اختراق إرادة الشعوب وحركاتها، لا بل قد يشجع هذا الواقع، المنخور بأخطاء وخطايا وتشرذم وتفرقة، تلك القوى المضادة على المضي في مشروعها، لكن صور جمال عبدالناصر التي تبرز بين الفينة والأخرى في الميادين والساحات، ورغم محاولات التعتيم الإعلامي عليها، تأتي لتؤكد أن مبادئ الزعيم الراحل مازالت حيّة، وأن النهج الذي اتبعه بمقاومة الاستعمار والصهيونية مازال حاضراً رغم الحصار، وان الشعارات والبرامج الأكثر جاذبية للجماهير العربية هي تلك المستمدة من شعارات ناصر وبرامجه حتى لو رفعتها قوى وتيارات وجدت نفسها، في زمن تغليب الثانوي من الخلافات على الرئيسي من التناقضات، في مواقع الاعتراض على ثورة يوليو وعلى بعض أدائها وممارساتها.
من تلك الحقائق الكبرى التي كشف عنها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر «ان المقاومة وجدت لتبقى وستبقى»، وقد جاءت الأيام لتثبت صحة تلك المقولة، كما لتظهر قدرة المقاومين على إلحاق أبشع الهزائم بحق أعداء الأمة، سواء في العراق أو في لبنان أو في فلسطين التي ولدت فكرة ثورة يوليو من قلب حصار قائدها في فلوجة - غزة عام .١٩٤٨
ومن تلك الحقائق أيضاً التلازم بين الخبز والكرامة، بين التنمية والاستقلال، بين العدالة والحرية، فالخبز غير المغمس بالكرامة لا يطعم الشعوب ولا يغنيها عن فقر وبطالة وجوع متجدد، تماماً كما ان معارك الكرامة المنصرفة عن معارك الخبز يسهل تجويفها والانقضاض عليها.
من تلك الحقائق كذلك وكذلك، هي ان الشعب هو المعلم، وان قواه الحيّة هي ضمانة الحياة الكريمة للأمم، وان مقياس حيوية هذه القوى يقاس أولاً وأخيراً بمدى ارتباطها بإرادة الشعب ومصالحه والتعبير الأصيل عنهما، لا بالالتفاف عليهما عبر الوقوف أذلة على أساطين المال استجداء لمعونة أو تسوّلاً لدعم، ولا حتماً عبر تحريك النزعات الطائفية أو المذهبية أو العرقية وتصويرها كأنها تمثل إرادة هذه الشعوب.
لقد كان عبدالناصر لكل العرب، بكل ألوان طيفهم الاجتماعي والسياسي، الديني والمذهبي والاثني، فليكن كل العرب اليوم متمسكين بمبادئ عبدالناصر وبمسيرته الكفاحية ضد الاستغلال والاحتكار والاستكبار.
ومن تلك الحقائق كذلك، التي أضاءها مبكراً جمال عبدالناصر، وغيره من رواد الحركة القومية العربية، أن لكل قطر عربي، ولاسيّما لمصر، دوائر ثلاثا يتحرك فيها: عربية وإسلامية وافروآسيوية، وقد نجح عبدالناصر في ترجمة هذا التكامل على غير صعيد، خصوصاً عبر معاهد تدريس القرآن الكريم في العديد من دول افريقيا وآسيا، أو عبر إطلاق كتلة عالمية انطلاقاً من مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥، مسهماً في ذلك في صياغة علاقات دولية جديدة شكلت حركة التحرر العالمية عنصرا رئيسيا فيها.
واليوم تتضح أكثر من أي وقت مضى ملامح هذه الكتلة الجديدة الخارجة عن نفوذ الهيمنة الامبريالية، عبر تعدد الأقطاب الدوليين والإقليميين في النظام الدولي المتغيّر، وعبر اكتساب قوى جديدة في العالم عناصر قوة اقتصادية وسياسية واستراتيجية، تجعل منها قوى صاعدة وقادرة على الصمود في وجه قوى الهيمنة والاستعمار.
وإذا كان عبدالناصر في أواخر الخمسينيات رائداً في التوجه شرقاً نحو موسكو وبكين ونيودلهي، وفي بناء تواصل مع عواصم افريقية وأمريكية جنوبية، فان العرب مدعوون اليوم إلى استعادة هذه الوجهة التي بدأت طلائعها تثمر من البحر المتوسط إلى بحر الصين، مستمدة عمقا استراتيجيا في جنوب افريقيا وأمريكا اللاتينية وكل أحرار العالم.
وإذا كانت الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة (ولاسيّما بريطانيا وفرنسا) قد شهدت أفولاً مع توهج حركة التحرر العالمية التي كانت باندونج عنوانها، وناصر ونهرو وتيتو وسوكارنو وسيكوتوري رموزها، وحرب السويس وثورة الجزائر، وقبلهما حرب الهند الصينية، ميادينها، فإن الإمبراطورية الاستعمارية الأمريكية وملحقاتها تشهد أيضاً أفولها ليقوم عالم جديد عماده شرق جديد..
شرقاً در.. هذا هو شعار المرحلة القديم - الجديد.. شعار أطلقه بالممارسة والفعل جمال عبدالناصر، وتعتمده اليوم كل القوى المستقلة المدركة لترابط حرية الوطن بحرية المواطن.
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
.