الجريدة اليومية الأولى في البحرين


مقالات


دفء الشتاء

تاريخ النشر : الاثنين ٢٣ يناير ٢٠١٢



ليس أفضل في الشتاء من دفء الشتاء، ودفء المشاعر في الشتاء. عندما تجتمع الأسرة الصغيرة أو بعض الأهل والأصدقاء حول بعض الجمر المتّقد في (المنقلة) أو (الدوّة) في مكانٍ حميمٍ في إحدى غرف المنزل، متقاربين في جلوسهم مع بعضهم البعض، يتسامرون ويتبادلون فيما بينهم ذكريات الشتاء الجميلة وشاي الزنجبيل الدافئ.
كان الشتاء في البحرين - ومازال - يقربنا من بعضنا البعض. وتحلو في لياليه الطويلة الرفقة والقراءة والسمر. وتطيب فيه الحياة كما يطيب فيه الطعام والملبس والعطور.
والشتاء كما أراه ليس كأي فصلٍ من فصول السنة. إنه ليس كالصيف أو الخريف والربيع. إنه فصلٌ مختلفٌ ومميز. هو لوحة تشكيلية رائعة، متجددة ومتغيرة في كل يومٍ وليلة. يكفي أن تذهب إلى البر حيث الفضاء والحياة البكر من حولك، وتنعم بالهدوء والسكينة والطبيعة الحالمة. ثم تنظر إلى السماء فترى تمازج الألوان في السحب منعكساً بين أشعة الشمس الخجول وهي بالكاد تعبر بين ركام الغيوم. والغيم يحجبها. ثم تذكر الله وتسبح بحمده وتثني عليه.
فصلٌ ينقلنا بأجوائه وذكرياتنا معه من الحاضر إلى الماضي البعيد في غمضة عينٍ، يوم أن كنا اطفالاً صغاراً حين فاجأنا هطول المطر، وفرحنا بهذا الماء العذب البارد الذي يتصبّب كرماً وسخاء من السماء ثم إذا زاد وأصبح وابلاً اختبأنا في بيوتنا خوفاً منه وأصبحنا ننظر إليه من خلف النوافذ. ثم إذا أرعدت السماء نظر بعضنا إلى بعضٍ نظر المغشيّ عليه من الموت. والتفتنا إلى أمهاتنا وجدّاتنا اللائي اشتغلن حينئذٍ بالتهليل والتسبيح وذكر الله. ثم إذا هدأ كل شيء، وتوقف المطر. خرجنا فرحين مبتهجين إلى حوش بيتنا الواسع ثم إلى حيّنا القديم وقد امتلأت كل طريق فيه بالبرك والمستنقعات. ورحنا نلعب ونمرح في تلك الفوضى الجميلة البريئة. ولا يعيدنا إلى البيت سوى صوت الرعد المخيف وتخويفنا بالبرق من أن يخطف أبصارنا.
وأنا أرى الشتاء كأني أرى شيخاً وقوراً مهيباً عَطِرا، وأتذكر بالحب والإكبار رجال البحرين القدامى كبار السن منهم، الذين هم جدودنا رحمهم الله جميعا، ولباسهم الجميل في الشتاء. بدءاً من ثوب الصوف الدافئ و(الصديري) حامل الساعة الفضية الدائرية الصغيرة، وغترة (الشال) المرسلة، التي هي من الصوف الكشميري المطرز، ثم (الدقلة) أو بشت الصوف (الوبر)، والجوارب القطنية الحميمة. ولا يستقيم الأمر معهم أبداً إلاّ بأطايب العطور والعود وهي تضوع من بين ثيابهم ومن مجالسهم الكريمة في تدارس علوم القرآن وأحاديث السمر والودّ فيما بينهم.
وهكذا يأتي الشتاء ويمضي ويبقى عطره معنا. عطر المطر وعطر الأرض وقليلٌ من الجمر والصحبة، والذكريات الجميلة.
الشتاء في البحرين هو الفرح العابر في حياتنا.
تمر الشهور والسنون وتتوالى الفصول. ويمضي العمر حثيثاً مسرعاً نحو الشتاء. حيث لا شيء أفضل من (البحرين) حبيبةٌ تضمنا، ودفء الشتاء يضمنا حولها.