الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


أوضاع المنطقة بين محذورين: حرب باردة أم عمل عسكري؟

تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٤ يناير ٢٠١٢



إن الأزمة السورية بخيوط توازناتها المتعاكسة تشكل احد أهم الملفات والمنعطفات الخطرة التي لا يمكن التنبؤ بشكل جازم بمدى نتائجها على المنطقة، فلا القيادة السورية قادرة على التراجع عن استخدام القوة المفرطة وغير المبررة في معالجة قضية الثورة في هذا البلد العربي الممانع، ولا قيادات المعارضة السورية بعد نزيف ذلك الدم قادرة على التراجع اليوم أمام القواعد الشعبية الثائرة التي أدمت الجراح مشاعرها فأصبحت غير واعية لحساب حجم التوازنات والحسابات السياسية الدولية الحاجبة انتصار ثورتها. وواقع الحال ان العامة من أبناء الشعب الثائر لا يمكن أن يُحمّلهم المتتبع الرصين أي عتب بالثورة فالعامة من الشعب تُعاني الفقر وتستشعر بالفساد وربما ترى أن الدولة لم توجد الية سابقة تهتم بتنمية مناطق الريف الزراعي، لكن العتب كل العتب يقع على رموز المعارضة وتشكيلاتها وخصوصاً التي في الخارج فهي عززت من الدفع بهذا الشعب العربي نحو مواجهة آلة عسكرية ثقيلة باطشة ومن دون استبراء منهم للذمة والوقوف عندها موقف الناصح والرائد للشعب حتى لو كان ذلك قد يُفاقم من ضررهم الشخصي بزيادة عمر مهجرهم السياسي، فموقع المسؤولية للشخصية الرمزية المعارضة يفرض عليها تجريد المطالب الشعبية من أي نزعات شخصية لها وكبح جماح روح النقمة لديها بسبب طول المهجر السياسي أو بسبب غيره وما تشعله هذه الحالة من حنين وتشوق قد يدفعان بالمعارض لركوب أي موجة تُنبئ بالرجوع إلى ربوع الوطن.
إن التشخيص والقراءة المسئولة للوضع الذي تعيشه المنطقة ومتغيراتها وبعد تعثر المشروع الأمريكي بحذافيره في العراق، ذلك كله يعطي مؤشرا على أن أي تغيير مدفوع وموجه من الخارج ضد النظام في سوريا تحديداً سيكون له تداخلات إقليمية ودولية متعاكسة صعبة الحلحلة والتخطي خصوصاً بعد ضعف الإدارة الأمريكية وفقد قدرتها على اختطاف القرار الدولي مرة أخرى كما كان الحال بالنسبة إلى العراق، فالرصد الرصين لواقع المنطقة والمجرد من النزعات يعطي مؤشرات على ان حال الثورة في سوريا لن يواجه إلا بالقوة العسكرية في الداخل وان رهان المعارضة على العامل الخارجي سيكون معرضاً للكثير من الانتكاسات والاعتراضات الدولية وبما تقتضيه توازنات المصالح، بمعنى أن أي خطأ للمعارضة في الحسابات سيترك الشعب الأعزل وجهاً لوجه في مقابلة النظام بإمكاناته العسكرية.
إن التنافس العالمي اليوم على المنطقة وما آلت إليه من اهتزازات هو في أوج ذروته وهو ما شكل من سوريا نقطة الارتكاز الأخيرة التي يسعى المتنافسون إلى الإمساك بها وذلك ما يجعل من فرص التغيير تكاد تكون غير متاحة في ظل هذا الوضع من التصارع بين التيارات المتعاكسة للقوى العالمية على المنطقة، فانحصار دوامة الصراع ووصولها إلى بؤرة التناطح لصراع المصالح يبشران بفرضية أن من سيخرج منتصراً من هذا الصراع بين من هو ساع لإسقاط النظام ومن هو ساع لإبقائه سيكون صاحب النصيب الأكبر بالنفوذ في المنطقة مستقبلاً، إذ انه من الواضح أن أي تغيير سوف لن يُمرر هذه المرة ضد سوريا إلا بعد تغير الموقف الروسي والصيني.
ومع ذلك ستبقى أزمة تصارع الملفات الشائكة في المنطقة مادة دسمة للأساليب الصهيونية من حيث إثارة كل بؤر التوتر في المرحلة الحالية لاعتبارات احترازية اقلها توفير فسحة من الزمن لإعادة ترتيب أولويات السياسة الإسرائيلية القادمة فسقوط نظام مبارك من دفة الحكم شكل صفعة قوية وفراغا استراتيجيا من الصعب تعويضه للسياسة الإسرائيلية، وفي ضوء الأوضاع العربية التي تتحرك بشكل لم تتضح صورته المستقبلية فان إسرائيل لن يُريحها استقرار الوضع في المنطقة من دون اتضاح موقفهُ منها.
إن التغيير في الموقف العربي هو مطلب لطالما نشده وارتقبه العروبيون وتحملوا في سبيل التنظير له ربما السخرية وقد اتهموا بنرجسية الأحلام إذ ان الكثير قبل هذه الثورات راح يعتبر المسألة القومية والحس القومي شيئا من الماضي، وهذه الثورات اليوم أتت لتُعيد وتؤكد أن البعد القومي هو حس وجداني يسكن هاجس الأمة بتعاقب أجيالها وإن حْجبته ظروف ما عن البروز وها هو اليوم ينفجر، صحيح أن هذا الانفجار لأسباب وظروف معيشية في مقدمته إلا أن هذا لن ينفك عن ذاك في آخر المطاف رغم المحاولات المستميتة لتفكيك واقع الترابط الفطري للوجدان القومي في الأجيال، وسوف تكون صحوة الأمة هذه المرة أكثر حراكا جماعيا وغير محصورة في الطبقة النخبوية.
ورجوعا إلى الأزمة السورية فبعد مضي أكثر من عشرة أشهر عليها صارت تُشكل حرجا بالغا للنخب العروبية المتخوفة من توجهات الغرب المستجدة ومواقفه من شعوب المنطقة ومع أن النُخب العروبية في تقديرنا لا ترحب بإسقاط النظام السوري عن طريق الآلة العسكرية الغربية لأنها متأكدة من أن البديل عندها لن يكون ممانعا لتوجهات إسرائيل إلا أنها تؤمن بأن الخيار الشعبي التعددي هو الخيار الأكثر مقدرة على مواجهة أطماع إسرائيل في المنطقة ناهيك عن كونه هو الخيار الاستراتيجي الأول لاستنهاض الأمة واستعادة دورها بين الأمم.
من الواضح أن القيادة في سوريا لم تُبد شيئا من تخفيف وطأة استخدام القوة ضد المدنيين وهذا أمر يندى له الجبين ومع إصرار الثوار في هذا البلد الشقيق على مواجهة الرصاص ستبقى المعادلة محكومة بمشهد مرير يُنبئ بمخاطر على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي، فأولاً على المستوى الداخلي: يذهب البعض من المحللين إلى أن الوضع الداخلي سوف ينزلق لحرب طائفية وأهلية ونحن شخصيا لم تتحقق لنا القناعات بحصول ذلك لأنه حتى اللحظة لم تتوافر قراءات ومعلومات واضحة ومُحايدة تُبرز حجم المنادين بالثورة ضد النظام من المؤيدين لبقائه وإصلاحه، كما أن قاعدة الانشقاقات في أوساط العسكر لم تتوافر عنها بيانات مؤكدة توضح حجمها من مجموع تعداد نفوس المؤسسة العسكرية وهل هناك أرجحية مؤكدة بحصول تفاعلات ليست ظاهرة على السطح هي قيد الاختمار داخل تركيبة المؤسسة العسكرية ستؤدي في النهاية حتماً إلى انقلاب عسكري جذري؟ كل ذلك يُضاف له عدم وجود بوادر لتغيّر معادلة التوازنات في البعدين الإقليمي والدولي تجاه المشهد السوري، وبالتالي فإن تقديراتنا لأزمة الوضع السوري ترى أن الثورة جاءت في التوقيت الجيوسياسي الخطأ وأنها فارقة عن باقي ثورات الوطن العربي في جانب مهم من جوانبها، بحيث ان غالب النُظم التي سقطت في الأقطار العربية كانت نظماً مُتسمة بالتبعية للمعسكر الغربي الذي انقلب اليوم على حُلفاء الأمس وراح يركب موجة ثورات الجماهير لكن الحالة السورية هنا فارقة، فمنظومة أحلافها لم تكن ذات ميول غربية وأمريكية وإنما على العكس وبالتالي فان خيارات سوريا وتحالفاتها الدولية لقراءة مشهد المنطقة هي بعيدة كل البعد عن الوجهة الامبريالية والصهيونية ونظرتها لتشكيل المنطقة، واستناداً إلى ذلك فان تحركات الشعب السوري تأتي في وقت حرج ومُتباين لما تفرضه طبيعة توازنات القوى الدولية من نظامها القائم وما ينتجه ذلك المتغير من شدة تنافسية على إعادة تثبيت الأدوار في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يشكل بدوره العقبة الكبرى أمام أي توجهات ثورية للتغيير في سوريا في هذه المرحلة بغض النظر عن مدى حجمها في واقع الشارع السوري.
أما على الصعيد الخارجي فإن الأزمة السورية قد تدفع بالمنطقة إلى أحد المشهدين: الأول هو أن بعض القراءات تذهب إلى أن المحور الأمريكي الغربي سيدفع نحو تشديد العقوبات على طهران لإحداث زيادة في صفوف التيار الشعبي المعارض بالداخل الإيراني مما يُفضي لشغل إيران بذاتها وكما هو الحال المراد لسوريا عند فشل إسقاط النظام، ذلك الحال الذي قد يبقى مُعلقاً فترة ممتدة، وهذا السيناريو سيُضعف طبعاً من مقدرة الدولتين الحليفتين على تقوية تحالفاتهما على مستوى الخارج، ومن ضمن التفاعلات الداخلة في هذا المشهد أن الإدارات الأمريكية والغربية ستعمل على توتير العلاقات بين طهران ودول المنطقة فإذا تم تحقق هذا المشهد فانه سيجعل المنطقة في وضع استنزاف مستمر وسيُدخلها فعلاً في مرحلة حرب باردة على مستوى النظم وتركيبات الطوائف الشعبية فيها، وفي ذلك نتفق مع ما أشار له داود أوغلو وزير خارجية تركيا قبل زيارته الأخيرة لطهران.
أما السيناريو الثاني فهو مشهد تدخّل العمل الجراحي القصري الذي قد تُدفع له المنطقة بشكل غير محسوب العواقب وهو العمل العسكري لإعادة مقاليد ميزان القوى لصالح المظلة الغربية والأمريكية فيها، وهذا الأمر مرفوض جملة وتفصيلا، فلن يكون أي عمل عسكري مقبولا ضد طهران أو سوريا خصوصاً ان كل مؤشراته لن تخدم إلا إسرائيل وسوف تتضرر منه مصالح كل دول المنطقة وشعوبها، وهذا الاحتمال هو اليوم وارد ومستتر أكثر من ذي قبل نتيجة حسابات مُتحركة ربما لا تقبل التأجيل منها مثلاً الانسحاب الأمريكي من العراق وخروج مصر من حسابات «التعويل» الإسرائيلي بعد سقوط نظام مبارك.