الجريدة اليومية الأولى في البحرين



المصالحة شرط لعودة الجميع «يدًا واحدة»

تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٤ يناير ٢٠١٢

فهمي هويدي



أمامك مدخلان لتقييم العام الأول للثورة في مصر. فإما أن تقرأه من خلال ما جرى أمس. حين انعقد أول برلمان يشكل بالانتخاب الحر منذ ستين عاما على الأقل. أو أن تقرأه من خلال الاستماع إلى أصوات الغاضبين الذين سيحتشدون غدا في ميدان التحرير.
(1)
إن شئت فقل إن الحدث الأول يمثل النصف الملآن من كأس الثورة. في حين أن الحدث الثاني يجسد نصفه الفارغ. ذلك أن انعقاد مجلس حقيقي للشعب حدث كبير لا ريب. وأضع أكثر من خط تحت كلمة «حقيقي»، لأننا منذ منتصف القرن الماضي لم نعرف سوى مجالس مزورة وانتخابات مغشوشة ونوابا أغلبيتهم الساحقة كانت تمثل الحكومة والأمن بأكثر مما تمثل الشعب. وهؤلاء كانوا يتسترون على الحكومة ولا يراقبونها. ولعل كثيرين يذكرون أن مجلس الشعب الأخير الذي تم انتخابه في عام 2010 صمم بحيث يمرر عملية توريث السلطة. ولم يسمح إلا لأحزاب الموالاة بتمثيل رمزي إلى جانب الحزب الوطني، الذي احتل 420 مقعدا من 495 كما تم إنجاح 6 من حزب الوفد وخمسة من حزب التجمع. أما الإخوان الذين نجح منهم 88 نائبا في انتخابات عام 2005، فلم يسمح إلا لواحد فقط بتمثيلهم في البرلمان.
الانتخابات الحرة التي جرت بعد الثورة فضحت فحش التزوير. فالإخوان الذين لم ينجح منهم في عام 2010 سوى واحد فقط، فاز حزبهم «الحرية والعدالة» بـ 218 مقعدا. وحصد التحالف الديمقراطي الذي أقاموه 45,8% من مقاعد المجلس. والسلفيون الذين لم يظهروا في البرلمان من قبل فازوا بـ 123 مقعدا، وحصل الوفد على 42 مقعدا، كما حصل تحالف الكتلة المصرية على 33 مقعدا.
لدي ملاحظتان على النتائج الرسمية التي أعلنت ظهر السبت الماضي. الأولى أن حزب التجمع اليساري لم يحصل على أكثر من 3 مقاعد فقط رغم أنه موجود في الساحة المصرية منذ نحو 35 عاما «تأسس في سنة 1976»، في حين تجاوزته بكثير أغلب الأحزاب التي تشكلت قبل أشهر معدودة. وللعلم فإن حزب البديل الثوري «اليساري في تونس» جاء بدوره في ذيل الناجحين في انتخابات المجلس التأسيسي في تونس، حيث حصل أيضا على ثلاثة مقاعد فقط.
الملاحظة الثانية أن الإسلاميين مجتمعين حصلوا على ما يجاوز 72% من مقاعد مجلس الشعب، في حين أن الذين وافقوا على التعديلات الدستورية كانوا 77%. ورغم أن التعديلات لم تكن لها علاقة بالهوية الإسلامية. فإن حملة العلمانيين والليبراليين عليها استنفرت الصوت الإسلامي ودفعته إلى التصويت لصالحها، وهذا التشابه في النسب قرينة مهمة دالة على أن ثلاثة أرباع الشعب المصري علـى الأقل منحازة إلى هويتها الإسلامية وبصرف النظر عمن يعبر عنها، وهي رسالة مهمة يتعين على الجميع احترامها ووضعها في الحسبان دائماً.
(2)
الأهم من فوز هذا الفصيل أو ذاك أن مجلس الشعب شكلته للمرة الأولى الإرادة الشعبية الحرة في ظل إقبال جماهيري هادر، كان إعلانا عن عودة المصريين إلى السياسة بعد طول هجر وغياب. ليس ذلك فحسب وإنما من شأن تشكيله أن ينقل سلطة التشريع من المجلس العسكري إلى المجلس المنتخب. وتلك خطوة مهمة للغاية تعني أننا قطعنا نصف الطريق تقريبا لتسليم السلطة إلى المدنيين، حيث لم يتبق بعد ذلك سوى انتخابات مجلس الشورى وانتخاب الرئيس وإعداد الدستور الجديد.
رغم أننا بتشكيل مجلس الشعب نكون قد أقمنا على الأرض أول مؤسسة منتخبة في النظام الديمقراطي المنشود، ومن ثم جسدنا حلما ظننا أنه بعيد المنال، إلا أن البعض استنكروا ما جرى واستقبلوا الحدث بخليط من مشاعر الامتعاض والخوف، وهو ما عبرت عنه مقالات عدة نشرت خلال الأسابيع الأخيرة، إلى جانب سيل الصور الكاريكاتورية التي لم تكف عن السخرية من الاختيار الشعبي وتشهر به. بل ذهب البعض إلى الادعاء بأن الثورة «سرقت»، رغم أن الجماهير التي ثارت هي ذاتها التي صوتت في الانتخابات.
أدري أن ما صدر عن بعض الإسلاميين والسلفيين منهم بوجه أخص كان يستحق الإنكار والامتعاض، لكن المشكلة أنه لم يعط حجمه، وإنما بالغ إعلام الإثارة والتربص في تسليط الأضواء عليه وتعميمه، حتى بدا وكأن تلك الآراء التي عبر عنها آحاد الأفراد هي موقف الجميع، وهي النموذج الذي سيفرض على المجتمع في نهاية المطاف. الأمر الذي أعطى انطباعا بأن إنجاز الانتخابات نقلة سياسية إلى الأمام. وفي الوقت ذاته ردة حضارية إلى الوراء. ولأن الأمر لم يكن كذلك لضرورة، فقد أعاد ذلك النهج إلى الأذهان صورة «الفزاعة» الإسلامية التي جرى الترويج لها في العهد السابق، لأن التعبئة الإعلامية التحريضية والمضادة كانت بمثابة إعادة إنتاج للفزاعة نفسها. حين خيم جو التشاؤم والتخويف الذي حرص البعض على إشاعته، لم تر إنجازات كثيرة تحققت. لم ير هؤلاء أجواء الحرية التي أنعشت المناخ العام، وفتحت الأبواب لمشاركة كل التيارات في العمل السياسي من دون وصاية أو إقصاء. ولم ينتبهوا إلى أجواء النزاهة غير المسبوقة التي تمت في ظلها الانتخابات، ولم يلاحظوا أن الانتخابات رسمت للمرة الأولى صورة الخريطة السياسية للمجتمع المصري، وحددت أحجام وأوزان تلك القوى. ولم يعبأوا بكون انتخاب مجلس الشعب، على علاته، يمهد لإخراج العسكر من المشهد وتسليم السلطة إلى المدنيين. كذلك لم ينتبهوا إلى أن انتخاب الإسلاميين ليس مكافأة لهم، وإنما هو حقيقة الأمر امتحان عسير لجدارتهم ولمشروعهم، النجاح فيه يعود على المجتمع بالخير. أما الرسوب فهم وحدهم الذين سيدفعون ثمنه. حيث سيتعرضون للتصويت العقابي في أول جولة لاحقة.
(3)
الغاضبون الذين سيخرجون إلى ميدان التحرير محقون في موقفهم، وإن اختلفنا معهم في وسائل التعبير عنه. ومصدر الغضب الرئيسي هو سلسلة الأخطاء التي وقع فيها المجلس العسكري، وكان استخدام العنف ضد المتظاهرين والمعتصمين على رأسها. لقد أدى ذلك العنف إلى قتل حوالي مائة شخص وإصابة نحو 12 ألفا تمت معالجتهم باستثناء 3500 لايزالون تحت العلاج، وهؤلاء بينهم 20 شخصا فقدوا أعينهم و12 أصيبوا بالشلل الرباعي. هذا العنف الذي أعاد إلى الأذهان أساليب النظام السابق، لم يعتذر أحد عن وقوعه، ولم يعرف الفاعلون المسئولون عنه، وبالتالي لم يحاسب عليه أحد، وإنما ظل الخطاب الرسمي يتحدث عن «طرف ثالث» ضالع فيه، الأمر الذي كان يعنى قيد كل تلك الجرائم ضد مجهولين. وهي خلاصة لم تقنع أحدا، وأدت إلى سحب الكثير من رصيد الثقة في المجلس العسكري. وعندما حدث ذلك فإن المجتمع الذى شعر بالإهانة لم يخف تململه وغضبه. وكان الشباب أكثر الفئات انفعالا وأشدهم جرأة في التعبير عن ذلك الانفعال. ليس لدي اعتراض على من يقول إن المتظاهرين الغاضبين وقعوا بدورهم في أخطاء، أو ذهب آخر إلى أن البلطجية وأرباب السوابق اندسوا في أوساطهم وفعلوا أفاعيلهم الشريرة. أو ادعى ثالث أن الفلول لم يكفوا عن إذكاء الغضب وإشاعة الفوضى. هذا كلام أفهمه وقد لا أنفيه، لكن ذلك كله في كفة وأخطاء المجلس العسكري في كفة أخرى. فالأولون مجهولون وأعضاء المجلس العسكري معلومون، والأولون أفراد أو جماعات لا سلطان لهم على الشارع، والآخرون يحكمون البلد وأصحاب قرار في مصائر البلاد والعباد. ثم إنه لا وجه للمقارنة بين أناس معتصمين أو شبان متظاهرين يرفعون اللافتات ويهتفون أو حتى يرشقوا بالحجارة، وبين من يوجه الشرطة العسكرية وقوات الأمن المركزي المعززة بالرشاشات والعصي المكهربة وقنابل الغاز المسيل للدموع والمدعومة بالدبابات والمدرعات.
لم أتحدث عن تدليل المسئولين عن الفساد والقمع من أركان النظام السابق، ومقارنة ذلك بالمعاملة الخشنة والقاسية التي عومل بها المتظاهرون والمعتصمون من شباب الثورة، ولا عن التراخي في محاكمة المسئولين عن قتل نحو 850 من الثوار قبل تنحى مبارك. ولا عن تلفيق التهم بعد التنحي للناشطين واحتجازهم ومداهمة مقراتهم، ولا عن جرائم كشف عذرية الناشطات أو هتك أعراضهن... الخ.
لكن ما يهمني في الشق المتعلق بالنصف الفارغ من الكأس هو عقدة العنف التي أفرزت بحيرة الدم وأحدثت فجوة عميقة في العلاقة مع المجلس العسكري، الأمر الذي يصعب تجاهله ولا مصلحة لأحد في استمراره.
(4)
أدرى أن ثمة شططا من جانب بعض الغاضبين وصل إلى حد اتهام المجلس العسكري بقيادة الثورة المضادة، وأن المشير طنطاوي رئيس المجلس طاله بعض الرذاذ من جراء ذلك، ولكنى أذكر بالمثل العربي القائل إن من طالت عصاه قلَّت هيبته، وأن العنف المفرط الذي استخدم في بعض الأحيان هو الذي أثر على مكانة المجلس ونال من هيبته، وأن رفض الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عنه هو الذي دفع الغاضبين إلى ما قد يعد تطاولا أو اجتراء، وللعلم فإن ذلك الاجتراء لم يكن من نصيب الشبان الغاضبين وحدهم، ولكننا وجدنا له صدى في وسائل الإعلام حتى كانت بعض عناوين صحيفة الوفد يوم الخميس 19 يناير كالتالي: الشعب يريد رأس المشير ــ مبارك وطنطاوي خيبة واحدة ونهاية واحدة!
للأسف الشديد فإن البعض أخذوا ببركة الدم ووقفوا عندها، بحيث لم يروا غيرها ولم يعد يشغلهم سوى الثأر للشهداء والدفاع عن حقوق المصابين والضحايا. وقد تمكن منهم الحماس إلى الحد الذي حجب عنهم أي إنجاز آخر تحقق خلال العام الأول للثورة. ولأن القضية الاستراتيجية هي إقصاء المجلس العسكري وتسليم السلطة إلى المدنيين وتأسيس النظام الديمقراطي البديل، فينبغي ألا نلجأ إلى أي أسلوب أو تصرف يعطل بلوغ ذلك الهدف. إلا أنني أزعم أن التقدم في ذلك الاتجاه الآن يتطلب إجراء مصالحة بين المجلس العسكري والغاضبين الذين يحركهم الوفاء للشهداء والمصابين. ولا أرى سبيلا إلى إجراء تلك المصالحة إلا بتعويض أسر الشهداء والمصابين وتقديم الرعاية المستحقة لهم، وبمحاسبة المسئولين عن الجرائم التي ارتكبت بحق المتظاهرين مهما علا مقاسهم. وتلك المحاسبة وحدها هي التي تفتح البال للعبور فوق بركة الدم، لكي يصبح الجميع مرة ثانية «يدا واحدة».
هل يستطيع مجلس الشعب المنتخب أن يؤدى دوراً في إتمام تلك المصالحة