قضايا و آراء
أزمة العقلانية في التفكير السياسي
تاريخ النشر : الجمعة ٢٧ يناير ٢٠١٢
تُعدّ نظرية (العقل)، من الجدليات المطروحة في التفكير الإنساني عامة، وانفرد هذا اللفظ، بأطروحة خاصة في التفكير العربي، أو بالأحرى في عالم الفكر العربي وقضاياه، وتميز وأخذ حقه ومستحقه، بل دار عليه المدار، وعليه المرتكز، في قضايا الفقه والتشريع الإسلامي، والفكر الإسلامي عامة.
والتفكير فريضة إسلامية، مما يدل على أهمية العقل ودوره، في الارتقاء العلمي والإنساني، وقد ورد العقل أو التفكير بصيغه المختلفة، في القرآن الكريم، وأكثرها لفظ «أفلا تعقلون».
ولعظم شأنه كانت هناك تقسيمات للعلوم، كما في التراث والحضارة الإسلامية، فهناك علوم عقلية محصنة كالفلسفة والأصول والكلام والمنطق والتصوف، وعلوم نقلية كالتفسير والحديث والفقه وغيرها.
وكان للعقل وللتفكير الدور الرئيسي، لتطور العلوم وتقدمها، وشيوع المذاهب الفكرية والفلسفية، ونشأة النظريات العلمية، وازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وليس بإمكان المرء، أن ينكر أو يتجاهل، ما قدمه العلماء العرب والمسلمون، من إسهامات ضخمة في مجال فلسفة العلم، أو في مجال الكشوفات العلمية، وخاصة ابان المرحلة النهضوية الكبرى.
وبذلك يشهد التاريخ، على قدرة الإنسان العربي على تحدي العوائق، وإبراز الطاقات، وتذليل الصعوبات، التي قد تكون عائقا لقيام نهضته، واستنفار طاقاته المعرفية والإبداعية (العلم والفلسفة والدين لنهضة العقل العربي - صلاح محمود عثمان).
في واقعنا السياسي المعاصر، هناك أشبه بردة كبيرة، تلك هي (تغييب العقل)، في تفكيرنا السياسي، مما ينذر بوقوع أزمة في العقل السياسي العربي عموماً.
وقد يكون غياب العقل متجذرا عند بعض النخب السياسية، والمثقفين السياسيين، وعند الأحزاب والحركات السياسية المنظمة، أو قد يوجد عند بعض جماعات الحركات الإسلامية المعاصرة، أو ما يسمى «جماعات الإسلام السياسي»، وهو - أساسا - مهيمن ومتجذر، عند جماعات العنف، والعنف المسلّح.
وتاريخيا، ان الفكر السياسي العربي الحديث، حدثت نشأته في قلب الدولة العثمانية في أواخر عهدها، بحثا عن آفاق جديدة، ومع تطور وتسارع الوتيرة، فقد تبلورت التيارات الفكرية المختلفة: القومية والعلمانية، واليسارية، والإسلامية.
إن الرؤى الأيديولوجية كرست إشكالات، وموجات صراع، طوال السنين والعقود الماضية، وخاصة الثنائيات، في الوعي العربي المعاصر: ثنائية (العروبة والإسلام)، و(الرجعية والتقدمية)، و(النهضة والانحطاط)، و(المجتمع الديني والمجتمع المدني).
لقد أثرت بالفعل هذه الإشكالات في جمود العقل السياسي العربي، وإبقائه في نطاق الأيديولوجيا، وتداعياتها، من دون فتح آفاق جديدة، ومساحات كبرى، للتفكير السياسي بعمق، في قضايا الأمتين العربية والإسلامية.
لقد فشلت العقلية الأيديولوجية في تغيير الواقع العربي أو الإسلامي، على الرغم من تراجع الأيديولوجيات القومية التقليدية، والعلمانية، وتقدم التيار الإسلامي (ملامح الفكر السياسي العربي الحديث - محمد عادل شريح).
وفي إطار المراجعات النقدية، للواقع السياسي العربي، وأزمة الأيديولوجيا به، فإن عبدالله العروي في (أبحاثه وكتبه)، يرى أن يمنح العمل السياسي العربي، أيديولوجيا حديثة وواقعية، تقوم على مبدأي (المنفعة والانجاز)، معيارين للفكر والعمل.
والدفع بالعمل السياسي، إلى الممارسة بالاقتناع بضرورة استيعاب أيديولوجيا معينة، توحد ذهنيا أعضاء الحزب الواحد، وتجعلهم نواة للمجتمع المرتقب (الأطياف في الايديولوجيا المعاصرة - جادالكريم الجباعي).
من جانب آخر، فإن السياسة في المحصلة، هي لعبة (فن الممكن)، ويروج الكثيرون لهذا الاتجاه، ويعرفون أنفسهم بأنهم (الواقعيون)، فهم يدعون إلى دراسة الواقع والاعتراف به، والتعامل معه، من دون آمانيّ كبيرة وآمال وأحلام وأوهام.
أصحاب هذا الاتجاه يرون وجوب التعامل مع الواقع، بما يحويه من موازين قوى، بالحكمة والاعتدال والعقلانية والمرونة ودراسة الإمكانات المتاحة.
الاتجاه الواقعي - يؤمن - ومازال، بأن التعاطي مع هذه الوسائل هو الأنجع، من دون اللجوء إلى الصدام وإلى الخسائر (الواقعية السياسية - خالد معالي).
وقد مثلت هذه المدرسة، نمطاً جديداً في التفكير السياسي، من الممكن أن نطلق عليه (بناء العقلاء)، الذي أسس لنواة حديثة ومتطورة في العمل السياسي العام.
ويطرح الإسلام أكبر نظرية في التعاطي السياسي، نظرية (اللاعنف)، فقد ورد على لسان نبي الإسلام (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، ما معناه أن الله يعطي على الرفق (اللطف)، ما لا يعطي على العنف.
إن إعطاء الله اللاعنف، هذا الامتياز، وهذه الصفة، لم يكن من فراغ، فلها فلسفتها ومضامينها الخاصة، انها قانون الطبيعة الفطري والأبدي، فالخير كله مع اللاعنف، والشر بأكمله مع العنف.
وتجلت مدرسة اللاعنف، كمدرسة في التفكير السياسي، واضحة المعالم، وظهرت تيارات فكرية ودينية تتبنى وتطرح، بقوة هذا الاتجاه، في إطار مدرسة، تقدم رؤية جديدة للنصوص وللتراث الفقهي، وتسوق مفاهيم جديدة مثل السلام والسلم الأهلي والتعايش السلمي والوحدة الوطنية.
لم يكن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الإسلام، وخاتم المرسلين، عنيفاً، ولا ميالاً إلى العنف، وكذا أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وسائر الأنبياء ويظهر ذلك، في سيرتهم العطرة، وحياتهم، وتعاطيهم مع المواقف والظروف.
ومن الخطأ أن نقول إن تيار اللاعنف تيار غير معروف، أو قليل الاتباع، أو هو محدود بالنخب الفكرية وقياداتها، والحق أن هذا التيار يمثل أغلبية المسلمين، رغم أن الإعلام قد شُغل فترة طويلة بجماعات العنف والتطرف والإرهاب، لغفلة الإعلام عنه (تيار اللاعنف في الإسلام - جواد العناني).
غياب العقل، وتغييب التفكير المنطقي السليم، جعلا البعض من الجماعات السياسية الإسلامية، تنزلق إلى العنف والعنف المُسلح.
ومع نمو وشيوع هذه الظاهرة، فإن المطلوب من عقلاء الأمة ومفكريها، أن ينظروا إلى قضية العنف بنظرة أكثر جدية، وأن يولوا البحث الموضوعي عنايته لأسباب نشوء تيار العنف، فقد تكون، الأسباب تتعلق بالظروف والأوضاع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لكن ليس مبررة - البتة - استغلال ذلك لاستعمال هذه الطرائق.
إننا مع هذين الاستعراض والسرد لحقيقة الواقع والتفكير السياسيين العربيين، نحن اليوم في حاجة ماسة، إلى اعمال العقل، وتجديد فكرنا السياسي، وإعادة الاعتبار للعلوم والفهم والحكمة والتعقل، نحن بحاجة إلى التفكير النقدي والحوار الدائم، والمصالحة والسلم الأهلي.
نحن بحاجة إلى صياغة تفكير سياسي واقعي محكم، أصيل ومجدد، مُنفتح وتقّدمي ومتطور، يُلبي الطموحات والآمال، ويعمل على الاستقرار السياسي والحياة الكريمة.
هذا، والله من وراء القصد.