شرق و غرب
صعود الصين يزعزع المسلَّمات الأمريكية
تاريخ النشر : الجمعة ٢٧ يناير ٢٠١٢
أجرت صحيفة لوموند الفرنسية الحوار التالي مع المفكر ايان بوروما الذي انتقل سنة 2005 للإقامة في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية وقد أصبح أحد أبرز المفكرين في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم كما أنه يكتب لمجلة «نيويورك رفيو أوف بوكس» وصحيفتي «نيويورك تايمز» و«نيويوركر»، وفوق ذلك كله فهو يتقن اللغات الهولندية والانجليزية والألمانية والصينية واليابانية والفرنسية كما أنه يتولى نشر مراجعات ثقافية في مجلة «إيسترن إيكونوميك رفيو» في هونج كونج وصحيفة «ذا سبيكتيتر» في لندن.
يعمل ايان بوروما اليوم أستاذا وأكاديميا يدرس قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة في جامعة «بارد» كما أنه مؤلف معروف بكثرة مؤلفاته وقد حصل على جائزة «إيراسميس» عن كتابه «الصين والشرق الأقصى»:
{ قبل خمس وعشرين سنة من الآن كانت هناك في الولايات المتحدة الأمريكية مخاوف من تنامي القوة اليابانية. كيف نفسر هذه المخاوف المتنامية اليوم في داخل الولايات المتحدة الأمريكية من تنامي القوة الصينية؟
- إن الظاهرتين اليابانية من قبل والصينية في الوقت الحالي غير متشابهتين. إن الحضور الياباني الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية هو الذي أثار قبل ربع قرن من الآن المخاوف الأمريكية، فقد أقدمت شركة ميتسوبيشي على شراء مركز روكفيلير فيما راحت شركة تويوتا اليابانية العملاقة تبتلع كل شيء في طريقها كما أن منتجات هاتين الشركتين وغيرهما من المؤسسات اليابانية الأخرى كانت حاضرة بقوة في الأسواق الداخلية الأمريكية. كان اليابانيون على مر التاريخ يثيرون شكوك الأمريكيين وريبتهم وما الحرب العالمية الثانية والهجوم الياباني على بيرل هاربر ببعيدين.
أما اليوم فإن الأمريكيين يتساءلون عما إذا كان الصينيون سيكونون أكثر خطورة على الولايات المتحدة الأمريكية إذا ما اكتسبوا ذات القوة التي بلغتها اليابان. في حقيقة الأمر فقد كانت المخاوف الأمريكية من اليابان مبالغا فيها إلى حد كبير وهو ما ينطبق أيضا على الأحداث التي بدأ الحديث يثار من الآن عن الخطر الصيني الذي يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية، فغياب الحريات الفكرية في الصين يظل يمثل عقبة كبيرة أمام استمرار نموها كما أن المصالح المشتركة التي تربط بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ستتغلب على تلك القوى التي تدفع إلى الصدام والمواجهة بين الدولتين العملاقتين.
{ ما نسبة الواقع والفنتازيا في التوتر المتنامي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين؟
- الفنتازيا تعني الخوف. إن هذا الخوف له ما يبرره، فالقوة الصينية المتنامية ستؤدي بكل تأكيد إلى تقليص النفوذ الأمريكي في العالم، فبعد سنة 1945 أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تلعب دور الشرطي في القارة الآسيوية. لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تلعب الدور عينه غير أنني لا أعتقد أن المخاوف التي تساور الأمريكيين الآن من تنامي النفوذ الصيني تصل إلى مستوى تلك المشاعر المعادية لليابان في داخل الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي. إن المخاوف من الهيمنة الاقتصادية الصينية تتركز خاصة في بعض الولايات الأمريكية التي تعرف ببنيتها الاقتصادية التقليدية والتي تعاني تدهور صناعتها الثقيلة.
{ لقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة بيو أن الأمريكيين يعتقدون أن الصين قد أصبحت تمثل القوة الاقتصادية الأولى في العالم، في الوقت الذي تظل فيه الصين في واقع الأمر بعيدة وراء الولايات المتحدة الأمريكية.. هل يعيش الأمريكيون فنتازيا أو رهاب الخوف من الصين؟
- ان الأمر لا يعدو أن يكون مزيجا من الجهل والمخاوف التي استغلها كتاب الأعمدة والمحطات الإذاعية لتصعيد الانتقادات ضد الرئيس الأمريكي باراك أوباما. أعيد القول هنا ان تراجع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية حقيقة لا يرتقي إليها أي شك تماما مثل حقيقة تنامي القوة الاقتصادية الآسيوية. إن هذا الانحدار الأمريكي يسبب صدمة لكن يجب عدم الشعور بالفزع، ففي بداية القرن العشرين تم اختراع شخصية «فو ما نشو» ( وهو عبارة عن عبقرية شريرة تجسد الخطر الأصفر القادم من الشرق) وهو ما أدى إلى وقف تدفق الهجرة من الصين واليابان على الولايات المتحدة الأمريكية وقد انسحب ذلك التأثير نفسه على أوروبا. بعد ذلك جاء الحديث عن الخطر الشيوعي رغم أن ذلك الخطر لم يكن بالحجم الذي كان يصور في الولايات المتحدة علما أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد لعبت دورا كبيرا في تأجيج تلك المخاوف والعزف على وتر الخطر الشيوعي الوشيك.
إن الولايات المتحدة الأمريكية دولة تعيش تحت الخوف من القوى الخارجية التي قد تهدد بالقضاء على المجال الحيوي الأمريكي من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا. الولايات المتحدة الأمريكية دولة بنيت بأيدي المهاجرين كما أنها الدولة التي بنت بدورها مجتمعا من المهاجرين رغم أنها أصبحت اليوم دولة تطارد المهاجرين من أجل حمايتهم، وهي السياسة نفسها تقريبا التي تنتهجها السلطات الفرنسية. ومثل الفرنسيين، فإن الأمريكيين يعتبرون أنهم يحملون رسالة حضارية كونية، غير أن «النموذج الصيني» قد تسبب اليوم في تقويض العديد من المسلّمات.
{ هل تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية لاقتصادها على أساس فكرة الحرية يمثل خير ضمانة للنجاح في الوقت الذي يسجل فيه الصينيون نموا مرتفعا رغم أن النظام الحاكم في بكين يعتبر دكتاتوريا ومتسلطا بكل المقاييس؟
- هذا صحيح. لقد نجحت سلطات بكين إلى حد كبير في المزج ما بين الرأسمالية الاقتصادية من ناحية ومبدأ الدولة القوية، وهو النموذج الذي يرى فيه البعض تهديدا رغم أنني لا ألمس عداء متناميا ضد الصين في الرأي العام الأمريكي، فقد ظل الأمريكيون على مدى القرن الماضي من الزمن أكثر تقبلا للصينيين منهم لليابانيين. لذلك فإن البعثات المسيحية الأمريكية كانت تنجح في الصين أكثر من نجاحها في اليابان. في الثمانينيات من القرن العشرين عمد بعض المنتسبين إلى اليمين الراديكالي في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تدمير بعض سيارات التويوتا أمام الكابيتول، حيث مقر الكونجرس الأمريكي.
{ ماذا عن موقف الصينيين ورؤيتهم للولايات المتحدة الأمريكية؟
- هذا يتوقف عن أي صيني نتحدث. بصفة عامة يتراوح موقف الصينيين من الولايات المتحدة الأمريكية ما بين النفور والاعجاب إلى حد الانبهار. يتعلق الأمر خاصة بالطبقات المتعلمة التي تحلم بإرسال أبنائها للدراسة في الجامعات الأمريكية رغم الانطباع الذي نجده لدى الصينيين بأن الولايات المتحدة الأمريكية معادية لبلادهم. هذه هي الدوغمائية الجديدة التي نجدها في الصين وهي عبارة عن ذهنية قومية تقوم على أساس العزف على شعور «الضحية» التاريخية في العلاقة باليابان وأمريكا. في الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية نلاحظ إشكالية مطروحة هي شبيهة بتلك الاشكاليات التي تواجه بعض النخب الأخرى الموالية للغرب التي تعتبر أن «القرن الحادي والعشرين سيكون آسيويا».
خلال سنوات الستينيات من القرن الماضي ظهر في اليابان تيار يميني راديكالي وكان من ضمن ممثليه أساتذة جامعيون مختصون في الأدب الألماني والفرنسي بحثا عن الشرعية داخل بلدانهم. هذا ما يشعر به اليوم الصينيون من ذوي الميول القومية.
{ ما الذي يمكن أن يطلق الديمقراطية في الصين؟
- تتمثل العقبة الكأداء أمام تحقيق الديمقراطية في التحالف بين النخب الحضرية والحزب الشيوعي. ذلك أن هذين الطرفين يخافان من الطبقة الضخمة من سكان الأرياف «الجاهلة». فهذه النخب لها تاريخ كبير من العنف، كما أنهم يفضلون فرض القانون والنظام خوفا من عودة الفوضى إلى البلاد.