الجريدة اليومية الأولى في البحرين


شرق و غرب


قراءة في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة

تاريخ النشر : الجمعة ٢٧ يناير ٢٠١٢



في هذا العصر يمكن للقوة الأمريكية أن تكرس نفسها من خلال جيوش شركات المرتزقة الخاصة والطائرات بدون طيار. لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية اليوم في حاجة إلى الاعتماد على قوات برية تقليدية ضخمة من أجل مواصلة أجندتها الامبريالية في الهيمنة على العالم، هذا هو الأمر الذي يبدو أن الرئيس باراك أوباما قد أدركه.
يجب مع ذلك ألا نخطىء في تقديراتنا. قد تكون الأساليب التكتيكية تتغير غير أن دافعي الضرائب وبعض الأطراف الأجنبية في الخارج هي التي ستظل تتحمل عبء الميزانيات العسكرية الضخمة والسياسات الدفاعية الأمريكية.
يوم 5 يناير 2012 وقف الرئيس باراك أوباما إلى جانب وزير الدفاع ليون بانيتا وراح يكشف عن تفاصيل التغيير الذي أدخلته إدارته على الاستراتيجية العسكرية الأمريكية، وهي الاستراتيجية التي ستركز من هنا فصاعدا في الضربات الجوية والحروب بالوكالة، ليقطع بذلك مع الاستراتيجية السابقة التي كانت تقوم على الغزو البري وإعادة بناء الدول ومؤسساتها. يعتبر بعض الخبراء المختصين في الشؤون العسكرية أن هذا التغيير بمثابة الزلزال الاستراتيجي.
لا شك أن هذه الاستراتيجية العسكرية التي كشف عنها الرئيس باراك أوباما تمثل تحولا كبيرا عن الوضع العسكري الحالي، فالرئيس باراك أوباما قد أسقط بكل بساطة السياسة الحربية التي ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمدها على مدى العقد الماضي من الزمن، وهي الاستراتيجية العسكرية التي وضع لبناتها سلفه جورج بوش الابن. لقد وصل الأمر بالخبير والمحلل الاستراتيجي مايكل هاستيج إلى حد القول ان هذه الاستراتيجية العسكرية التي كشف عنها الرئيس باراك أوباما تمثل «صفعة في وجه الجنرالات العسكريين الأمريكيين».
بالمقابل فإن الصقور من المحافظين الجدد راحوا يطلقون العنان لأصواتهم معلنين أن إدارة باراك أوباما إنما بدأت تقوض المؤسسة العسكرية الأمريكية، فقد قال رئيس لجنة الخدمات العسكرية في مجلس النواب الأمريكي باك ماكيون: «إن هذه الاستراتيجية العسكرية ستجعل الولايات المتحدة الأمريكية تتراجع إلى الوراء وتتخلف عن الركب. إن هذه الاستراتيجية العسكرية ستكرس تراجع القوة الأمريكية في مقابل برامج داخلية فاشلة». يبدو أن هذا النائب الجمهوري يعتبر أن تغذية الآلة العسكرية الأمريكية الضخمة أهم بكثير من توفير الغذاء لجحافل الفقراء الأمريكيين.
إن هذه الاستراتيجية العسكرية الجديدة لا تعني أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تخلت عن الهيمنة الامبريالية أو أدارت ظهرها للحروب التي لا تعرف نهاية، بل على العكس من ذلك، فإن هذه الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس باراك أوباما تؤكد التزام الولايات المتحدة الأمريكية بالمسألتين أكثر من أي وقت مضى: تعزيز النفوذ الأمريكي في العالم وتعزيز القدرة على خوض الحروب الخارجية. لم يتملص الرئيس باراك أوباما من الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقد الماضي من الزمن، بل إنه اعتبر أن كارثة الحرب واحتلال العراق وأفغانستان كانت ترمي إلى تحقيق الأمن والاستقرار في هذين البلدين.
لقد حرص وزير الدفاع ليون بانيتا أيضا على طمأنة الرأي العام الأمريكي أن هذه التغييرات الاستراتيجية لن تضعف من قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على خوض حربين في الوقت نفسه، وتحقيق الانتصار فيهما. أما الرئيس باراك أوباما فقد حرص على طمأنة المقاولين وصناع التوابيت التي تعود محملة برفات الجنود الأمريكيين بأنهم سيظلون ينتفعون بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
قال الرئيس باراك أوباما للمراسلين الصحفيين:
«خلال الأعوام العشرة القادمة سيتم تقليص الميزانية العسكرية الأمريكية تدريجيا. لكنها في حقيقة الأمر ستظل تنمو بشكل مطرد. إن الميزانية العسكرية الأمريكية ستكون أكبر مما كانت عليه مع نهاية عهد إدارة جورج بوش لتصل إلى مبلغ 700 مليار دولار في السنة»، أي أن الميزانية العسكرية الأمريكية ستلتهم وحدها قرابة نصف أموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تقلص ميزانيتها العسكرية بنسبة النصف غدا غير أن ميزانيتها العسكرية ستظل تفوق الميزانية العسكرية الصينية بعدة أضعاف، ذلك أن الصين لا تعتمد على خوض «الحروب الاختيارية» في شتى مناطق العالم وهي تفضل أن تكرس قوتها من خلال الاستثمار في قدراتها الداخلية وتعزيز حضورها المالي والاقتصادي في العالم. أما الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما فإنها تعمل على تعزيز حضورها العسكري في الحديقة الخلفية للصين وهي بذلك تراهن على استعراض عضلاتها العسكرية المتناقصة بدل العمل على إعادة بناء اقتصادها المتهالك.
لقد قال الرئيس الامريكي الأسبق دوايت ايزنهاور ذات مرة أن كل دولار يذهب للجيش هو دولار لا يتم استخدامه من أجل توفير المأوى والغذاء للفقراء والمحتاجين.
في الحقيقة، فإن «الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة» التي أعلنها الرئيس باراك أوباما إنما تعيد تأكيد ما التزمت به الإدارات الأمريكية السابقة نفسه، أي تعزيز القوة العسكرية من أجل تكريس الهيمنة الأمريكية على العالم أكثر من أي وقت مضى وتحقيق الأهداف السياسية والمصالح الحيوية الاستراتيجية في مختلف مناطق العالم.
في حقيقة الواقع فإن مثل هذه الاستراتيجيات العسكرية الأمريكية كانت دائما ترمي أيضا إلى خدمة المصالح الاقتصادية الحيوية التي تجعل نخبة المال والأعمال تستفيد من توسع الامبراطورية الأمريكية وتعزيز نفوذها وهيمنتها على مختلف مناطق العالم.
ان إعادة تموقع القوات الأمريكية في منطقة آسيا - المحيط الهادي على سبيل المثال بما في ذلك نشر جنود أمريكيين في استراليا إنما ترمي من ناحية إلى تعزيز الأمن والاستقرار في هذه المنطقة بقدر ما ترمي إلى ضمان تدفق التجارة. إن الحفاظ على سلسلة القواعد العسكرية التي تمتد من أوروبا إلى أوكيناوا في اليابان لا يعتبر ضروريا من أجل الدفاع عن النفس غير أن الرئيس أوباما، ومن خلال هذه الاستراتيجية العسكرية «الجديدة - القديمة» إنما يرمي إلى «نشر الرخاء من خلال الحفاظ على انفتاح النظام الاقتصادي العالمي الحر».
بطبيعة الحال تلعب الاعتبارات الاقتصادية دائما دورا أساسيا في رسم السياسة الخارجية الأمريكية. هذه مسألة معروفة من الجميع ولا تنطوي بالتالي على أي جديد، فقبل أكثر من خمس وعشرين سنة، أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في خطابه التقليدي بشأن حالة الاتحاد أنه سيتم نشر قوات عسكرية أمريكية في منطقة الخليج، ليس لخدمة قضايا السلام والحرية بل لضمان حرية تدفق نفط الشرق الأوسط.
في الحقيقة فإن القرار الذي اتخذته ادارة الرئيس باراك أوباما لا يكرس التغيير بقدر ما يكرس الاستمرارية، فقد قال في ثنايا خطابه: «إن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية ستظل تعطي كل الأولوية للحفاظ على الأمن في منطقة الخليج من أجل منع إيران من تطوير سلاح نووي والتصدي لأي سياسات ترمي إلى زعزعة الأمن والاستقرار». كذلك جدد الرئيس باراك أوباما تأييده مسار الاصلاحات «السياسية والاقتصادية» في منطقة الشرق الأوسط، لينسج على منوال كل الرؤساء الذين سبقوه.
يستطيع الرئيس باراك أوباما أن يقول ما يريده ويعلن طي صفحة عقد كامل من الحروب والاحتلال غير أن الواقع يكذبه، فمنذ توليه مقاليد الرئاسة تضاعف عدد الجنود الأمريكيين في أفغانستان كما أنه سعى إلى تمديد الاحتلال الأمريكي للعراق كما أنه كثف من استخدام الطائرات بدون طيار في باكستان والصومال وطالب برفع الميزانية العسكرية.