أفق
العنف في المشرق العربي
تاريخ النشر : الاثنين ٣٠ يناير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تعود حشود الطائفيات والنزاعات القومية في منطقة المشرق العربي الإسلامي، وخاصة في الخليج والعراق وإيران، إلى ظهور شموليات حادة في الأنظمة والتيارات السياسية، أدت إلى تمزق وتفتت الخرائط السياسية والقوى السكانية. ولم تستطع هذه القوى تجاوز نفسها أو القيام بالتعاون للحد من ظواهر العنف والإرهاب.
إنها شموليات في الأجهزة وتوزيع الموارد بأشكال غير متناسبة وتضخم شراء الأسلحة، وتغلغل القوى الغربية المضادة للديمقراطية والعلمانية، للهيمنة على إنتاجِ النفط وإبقائه مادة خاما ومشتقاتها، وفصل المنطقة عن عالمها العربي.
كما أُغرقت المنطقة بفيض سكاني مغترب ومتنوع لم يقم بأي تأثير فكري اجتماعي خلاق، بل كان أشبه بأدوات عمل وإنتاج بكل ما يحمله من مشكلات وتأثيرات حادة.
أدت هذه إلى إيجاد اضطرابات وتحولات اجتماعية وثقافية عميقة داخلية غير مخططة وغير منظمة بأشكالٍ عقلانية، وقد بدت للسكان العوام العائشين في عزلة على مدى قرون أن هزة أرضية اجتماعية تكاد تنسف وجودهم التاريخي الروحي.
كل هذه السببيات جعلت المنطقة مختلفة عن جغرافية الربيع العربي والتوحيد، وعالم الديمقراطية الوليد وتغوص أكثر فأكثر في التمزق المذهبي بكل ما يجريه من تفاقم العنف.
القوى السائدة عملت على تغييب أي توحيد وطني وتغييب نمو الليبرالية والديمقراطية وفي عوالم محافظة لم تشهد حقباً تنويرية متصاعدة، فكانت فترات الازدهار الثقافي العقلاني ولحظات الديمقراطية السياسية وامضة سريعة لم تترك آثاراً في أغلبية السكان البدو والمزارعين.
وأدت سياسات إعادة البداوة ونشرها في المدن الخليجية والعربية إلى عودة التصحر الاجتماعي مثلما تنامى التصحر الطبيعي، وتذكرنا هذه بسياسة العصر العباسي المتأخر في الاستعانة بالسلاجقة وأمثالهم من الرعاة مما أدى إلى تدهور الثقافة المميزة للعصر السابق.
كذلك تفاقم التطور في المدن على حساب المناطق المنتجة في الصحارى والمناطق الزراعية، وتبدلت تكوينات السكان بصور سريعة، جعلت المدن متسارعة التطور، فوضوية النمو، ممتلئة بقوى سكانية غريبة، كما توسعت تجارة السلاح السرية، وتحول بعض البلدان إلى مراكز إيواء وتجنيد لعصابات وقوى مسلحة تخترق الحدود.
كما أن تفجر حروب عديدة هائلة أُديرت من الخارج وتهدف لإبقاء السياسات المحافظة القائمة نفسها، قد زادت من خلخلة القيم والتصورات المثالية فارتفع الاهتمام بالقوة والعنف على نحو لا سابق له، تغذيه محطات وثقافة سطحية وفنون تركز في الغرائز.
عادت المنطقةُ للوراء اجتماعياً وسياسيا وهي تتطور اقتصادياً بشكل كبير، فالهياكل الإدارية السابقة لم تكن بمستوى التحولات، من حيث مستواها العلمي خاصة، فلم تكن هناك قدرات كبرى على بناء تطور مدني مسالم تكرسه مؤسسات مدنية ورقابية.
تصاعدت أرقامُ ضحايا عمليات الإرهاب من عشرات ومئات حتى الألوف، واختفى القتلة وراء المنظمات والدول ولا تحدث أي أبحاث وتحقيقات كبرى لمعرفة هذه الشبكات، ويجرى ربط الأعمال السياسية الطائفية بالتقنيات المتطورة، فغدت هناك قيادات فضائية وسرية للمجموعات المسلحة وقوى المنظمات الطائفية المرتبطة بمراكز كبرى وتداخلت مع الصراعات السياسية والاجتماعية. وكذلك فإن تبدل مهمات الجيوش من قيامها بالدفاع عن الحدود إلى أن تشارك في العمليات السياسية والغزوات الخارجية فصار بعضها موجهاً ضد السكان أو مستعداً لحروب قومية، فأدى هذا إلى تفاقم العسكرة بكل مظاهرها في الحياة المدنية.
تذكرنا عمليات العنف الهائلة غير المسبوقة بالتدفق الضاري الصحراوي لبني هلال وغيرهم من القبائل الرعوية الضارية قبل قرون الذين اكتسحوا المدن كجراد، لكن هؤلاء قاموا في زمن القحط لا النفط.
إدخال الرعويين والصحراويين والمنبتين من مناطقهم وصحاريهم وأريافهم في المدن وجلب العمال الأجانب المجهولي السير الشخصية الدقيقة، أدى إلى تضادات اجتماعية خطرة، فتزايدت أعداد الجرائم وبلغت معدلات كبيرة، وظهرت جرائم لم تكن معروفة سابقا وغدت أحداثا يومية لا تهز المشاعر كما كان الأمر سابقاً.
كذلك غدا تهريب الممنوعات سهلا نظراً لهذه الأعداد الهائلة من المسافرين والعابرين والمهاجرين، ولضخامة التجارة في السلع والأشياء وغياب الرقابات الدقيقة.
وعلى الرغم من تضخم ظاهرات العنف وكونها ذات جذور اجتماعية وسياسية فإن المعالجات تتم بأساليب بوليسية، وتتكاثر أدوات محاربة الجريمة بأشكال تقنية، لكن لا تجري عمليات التعاون بين الدول لمعالجة هذه الظواهر، وتغيب الدراسات وعمليات التدقيق والبحث والحوارات، ومعرفة جذور الحركات الطائفية العنفية، وسببيات تبدل سلوك السكان المسالمين سابقا.