فــي حضرة مجلس الشعب
تاريخ النشر : الثلاثاء ٣١ يناير ٢٠١٢
فهمي هويدي
من عجيب ما حل بأرض مصر بعد هبة يناير الكبرى، ما شاع من أن الانتخابات ستجرى فيها بغير تلاعب أو تزوير. وحين اختبرت المقولة فيما خص مجلس الشعب، فوجئ خلق كثير بأن الادعاء صحيح، إذ على غير المألوف منذ نصف قرن ونيف، فإن المجلس المذكور جاء حقا ممثلا للشعب، وهو ما تناقلته الألسن بين مصدق ومكذب.
(1)
رويت قبل عامين قصة حوار جرى بين بعض نواب البرلمان التركي كانوا قد زاروا القاهرة، والتقوا نظراء لهم من أعضاء مجلس الشعب المصري، وكان بين الأخيرين واحد من المعارضين تطرق أثناء الحوار إلى الجهود التي تبذلها الحكومة لتزوير الانتخابات لإسقاط إناس بذواتهم وإنجاح آخرين. حينذاك لم يستوعب النواب الأتراك القصة، وطلبوا من محدثهم المصري أن يشرح لهم حكاية التزوير هذه، وكيف تتم عملية التلاعب في الأصوات، واستغرق الأمر بعض الوقت لإقناع الأتراك بما استغربوا له من أن الحكومة والأجهزة الأمنية هي من يقرر الناجحين والراسبين في الانتخابات، وأن تشكيل البرلمان يحدده القرار السياسي وليس أصوات الناخبين.
بسبب من ذلك فإن الحرية والنزاهة التي جرت بهما الانتخابات تجعلان منها حدثا كبيرا ونقلة مهمة في التاريخ المصري الحديث، إذ إلى جانب كونه يعد أول مؤسسة مدنية ينتجها الشعب بعد الثورة، ومن ثم أول تجسيد للنظام الديمقراطي المنشود وأهم خطوة اتخذت لتسليم السلطة من المجلس العسكري إلى الحكم المدني، فإن الحدث له سمات أخرى لها دلالتها هي:
* إن المجلس كله - تقريبا - خرج من عباءة المعارضة. لا يغير من ذلك ما قيل من أن بضعة عشر شخصا من فلول النظام السابق انتخبوا فيه، إذ لا قيمة لهذا العدد وسط نحو 500 نائب بالبرلمان، جميعهم من مجموعات سياسية معارضة.
* انها المرة الأولى في التاريخ المصري المعاصر التي يجد فيها الإسلاميون باختلاف مدارسهم أنفسهم يعملون جنبا إلى جنب في مؤسسة واحدة وتحت سقف واحد مع الليبراليين والعلمانيين باختلاف أطيافهم، ومطلوب من الطرفين أن يشتركا معاً في حمل مسئولية الرقابة والتشريع وانتخاب لجنة وضع الدستور، والتحدي الذي يواجهه هؤلاء وهؤلاء هو كيف يمكن أن يكتشف كل طرف الآخر، وكيف يتغلبون على سوء الظن المتبادل بينهما، ويبحثان عن مشترك يمكنهما من النهوض بالمسئولية التي اشتركا في حملها.
* إنها المرة الأولى في التاريخ المصري المعاصر أيضاً التي يحصد فيها الإسلاميون أغلبية تجاوزت 70% من عضوية المجلس النيابي، الأمر الذي يعد اختباراً لمقولاتهم ومشروعهم، كما يمثل امتحانا لقدرتهم على فهم الواقع، والتجاوب معه والاستجابة لمتطلباته، وكذلك قدرتهم على التفاعل مع القوى الوطنية الأخرى. ونتيجة هذا الاختيار هي التي ستحدد ما إذا كانوا يشكلون إضافة حقيقية إلى المجتمع أم أنهم عبء عليه. وهل هم أمل يمكن المراهنة عليه أم هم يتعين الخلاص منه.
(2)
لا مجال للحديث عن أداء المجلس، فنحن مازلنا بإزاء لحظات تحرير شهادة الميلاد بعد الاتفاق على اسم المولود والتعرف على جنسه. وغاية ما نستطيعه الآن أن نتفرس في وجهه ونحاول أن نرصد ملامحه. أعني أننا لم نمد بصرنا إلى أبعد من تركيب المجلس وتشكيل مجموعات عمله وما تناهي إلينا من حوار بهذا الخصوص بين التيارات المختلفة. في هذا الصدد نلاحظ ما يلي:
* إن 15 حزبا جرى تمثيلها في مجلس الشعب، 13 منها تأسست أو أجيزت بعد الثورة، وحزبان فقط ينتميان إلى مرحلة ما قبل 25 يناير، أحدهما حزب الوفد الذي فاز بـ38 مقعدا وهي نسبة لا تتناسب مع تاريخه، وحزب التجمع الذي حصل على ثلاثة مقاعد فقط، رغم مضي 35 سنة على تأسيسه.
* إن تحالف الكتلة المصرية الذي ضم أحزاب المصريين الأحرار والديمقراطي الاجتماعي والتجمع حصل على مليونين و400 ألف صوت، وإذا صح أن الأقباط بتشجيع من الكنيسة صوتوا لصالح الكتلة ولحزب المصرين الأحرار تحديداً، فإن حصولها على تلك النسبة المتواضعة من الأصوات يثير أكثر من تساؤل حول حجم الصوت القبطي ومن ثم حول العدد الحقيقي للأقباط في مصر، إذ المتواتر أن ما بين مليون ومليون ونصف المليون منهم صوتوا للحزب ، وهو ما يشكك كثيراً في المبالغات المتداولة عن أعداد الأقباط، ويرجح كفة تقدير أعدادهم بما لا يجاوز ستة ملايين شخص.
إن الهوية الإسلامية صوت لصالحها أكثر من 18 مليون شخص باتوا يمثلون أكثر من 70% من أعضاء مجلس الشعب، رغم أن المنتمين إلى الأحزاب التي عبرت عن تلك الهوية كانوا الأكثر تعرضاً للاضطهاد والقمع في ظل النظام السابق.
إن الأحزاب المعبرة عن الهوية الإسلامية ليست بالتماسك الذي يبدو لأول وهلة، ولئن كانت قوية شكلا فإننا لا نستطيع القول بأنها قوة تصويتية واحدة. فالإخوان حريصون على أن يحتفظوا بمسافة إزاء السلفيين، من ناحية لكي لا يحملوا بمواقف الآخرين التي لا يوافقون عليها، ومن ناحية ثانية لتجنب احتمال تقسيم البرلمان بين قوى دينية وأخرى مدنية. والسلفيون أنفسهم ليسوا فكراً واحداً، إذ بينهم اتجاه يؤيد المشاركة الديمقراطية ومستعد للتفاعل مع أغلب قيمها، وبينهم اتجاه آخر مايزال يرفض الديمقراطية ويرى فيها ضلالا ومدخلا إلى الكفر. وحزب البناء والتنمية الذي أسسه أعضاء الجماعة الإسلامية وحصل على 15 مقعدا يرى أنه وسط بين الإخوان والسلفيين يسعي لفض الاشتباك بينهما، أما حزب الوسط فهو حريص على أن يحتفظ بمسافة مع الإخوان، ويبدو مشتبكاً معهم في بعض الأحيان، ويحاول أن يصطف أكثر إلى جانب الأحزاب الليبرالية.
من الملاحظات الجديرة بالانتباه في هذا السياق أن الإخوان موجودون في العمل السياسي منذ عدة عقود، وأن الجماعة الإسلامية التي انتهجت سبل العنف في المرحلة الساداتية وشاركت في اغتياله مارست نقدا ذاتيا لأفكارها في سلسلة كتب «المراجعات»، ثم انتقلت بعد ذلك إلى العمل السياسي والسلمي من خلال حزب البناء والتنمية. أما السلفيون الذين كان موقفهم التقليدي ناقدا للديمقراطية ورافضا لها، فإنهم تحولوا فجأة إلى العمل السياسي وإلى المشاركة الديمقراطية من دون أن يراجعوا موقفهم الأصلي، فيما هو معلن على الأقل.
(3)
في ظل هذه الملابسات المعقدة بدا مصطلح «التوافق» وكأنه المفتاح السري الكفيل بتسيير دفة مجلس الشعب وتوفير فرص النجاح له في أدائه لمهمته. ورغم أن ذلك مدخل صحيح فإنه يحتاج إلى ضبط، ذلك أنه قد يبدو معطلا ومتعذرا إذا كان يعني اشتراط إجماع كل الأحزاب الخمسة عشر الممثلة في المجلس، وقد يكون مدخلا تلجأ إليه الأحزاب الصغيرة التي لا يتجاوز ممثلوها أصابع اليد الواحدة، لابتزاز القوي الممثلة لأغلبية الشعب واستخدام «الفيتو» ضدها. وقد يكون مقبولا ومفهوما أيضا إذا كان يعني استمرار التفاهم بين القوى الرئيسية «الحرية والعدالة والنور والوفد والكتلة مثلا». وقد لا يكون هناك مفر من اللجوء إلى التصويت العام في بعض الحالات لحسم الاختلاف في الرؤى والاجتهادات.
في رأي الدكتور عمرو هاشم ربيع الخبير بمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام أنه رغم أهمية التوافق فإن التقسيمات النمطية التقليدية لن يكون لها حظ كبير في مجال عمل المجلس، ففكرة التحالفات لن تكون قائمة بالضرورة، ولا قسمة اليمين واليسار ولا الاصطفاف في معسكرين ديني ومدني. إنما ستتغير المواقف بتغير الموضوع المثار، إذ قد يتفق البعض حول موضوع ثم يختلفون في موضوع اخر، وبشكل عام فإن فرصة التوافق حول ما هو سياسي واقتصادي أو معيشي قد تكون أفضل كثيراً من الاتفاق حول ما هو ثقافي مثلا، علما بأن أحداً لا يستطيع أن يتكهن بحجم الخلافات التي يمكن أن تنشأ بين الفرقاء في مرحلة انتخاب لجنة الدستور أو أثناء إعداد الدستور.
لا مفر مع ذلك من الاعتراف بأن حداثة تجربة اشتراك الجميع في مجلس الشعب، ومن ثم «اضطرارهم» للعمل معا لم تخل من تأثر بالرواسب القديمة والحساسيات بين القوى السياسية المختلفة. وقد ظهر ذلك أثناء تشكيل لجان المجلس، حيث اعتذر بعض ذوي الخبرة من الأحزاب الأخرى عن رئاسة بعض اللجان لعدم رغبتهم في التعاون مع الإخوان، رغم أن منهم من تولى بعض مواقع المسئولية في ظل النظام السابق، وتذرع آخرون بحجة التوافق لفرض شروطهم على الأغلبية.
(4)
في هذه الأجواء التي أنعشت أملنا في التقدم على طريق تأسيس النظام الديمقراطي الجديد، واستبشرنا خيرا بإجراء الانتخابات بحرية ونزاهة، فإننا لم نعدم أصواتا امتعضت لما أسفرت عنه النتائج التي أظهرت فوز الأحزاب الإسلامية بنسبة عالية من الأصوات. نعم عبر بعض ذوي النوايا الطيبة عن أملهم في أن تطور تلك الأحزاب من أفكارها ومواقفها بحيث تنجح مع الجماعة الوطنية في تضميد جراح الوطن والأخذ بيده لتجاوز أزمته، إلا أن الممتعضين ما برحوا يعبرون عن حزنهم وتشاؤمهم، فقرأنا تشكيكاً في قدرة الفائزين على الإنجاز، وتخويفاً من احتمالات التضييق على الحريات العامة والخاصة. كما قرأنا غمزاً في دور الدين الذي استخدم لجذب الأصوات. قرأنا أيضا غمزاً من نوع آخر في وعى الناس وانتشار الأمية بينهم وردوا ذلك في انحيازهم إلى الأحزاب الإسلامية... إلخ.
كل هذه الانتقادات على قسوة بعضها مفهومة وليست مفاجئة، إذ يحفل بها الإعلام المصري منذ عقود، لكن ما كان جديدا وصادما حقا هو ما قرأناه في جريدة «الأهرام» «صباح يوم الثلاثاء الماضي 24/1»، للدكتور مراد وهبة. ذلك أنه استحضر تاريخ الحزب النازي وما فعله باليهود في ثلاثينيات القرن الماضي، وخلص منه إلى أن المشكلة لم تكن في هتلر وحملة الإبادة «الهولوكوست» التي حدثت أثناء حكمه لألمانيا، ولكنها كانت أيضاً في الشعب الألماني ذاته الذي شاعت في أوساطه معاداة السامية، وظل مهجوسا بأن الشعب الآري هو الذي سيقود العالم ويصبح معلم البشرية. إلى هنا والكلام عادي ويمكن اعتباره بمثابة قراءة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، لكن الدكتور وهبة وظف هذه الخلفية للانقضاض على الإخوان والمطابقة بين كلام مرشدها الدكتور محمد بديع وبين الفلسفة الملهمة لهتلر والحزب النازي. ولو أنه أراد هجاء الإخوان فقط لهان الأمر نسبيا، ولأصبح الرد على الكلام حقا لهم. لكن المشكلة أنه حين اتهم الشعب الألماني بالنازية، فإنه أسقط نفس المعيار على الشعب المصري، الأمر الذي فهم منه غمزاً في عقيدة الشعب المصري التي دفعته إلى التصويت للإخوان والسلفيين، وخصوصا أنه تساءل عن التماثل بين الحزب النازي والإخوان. وحين فعل ذلك فإن هجاءه للإخوان الذي هو حر فيه تحول إلى ذم ليس فقط للشعب المصري ولكن إلى تجريح لعقيدته. سواء قصد الرجل ذلك أم لم يقصد، فإن كلامه أثار التباسا واستياء حدثني عنه كثيرون، وكان له أثره الغاضب في مقالة كتبها زميلنا الأستاذ أسامة غيث في جريدة «الأهرام» ذاتها عدد «28/1».
إنه أمر محزن حقا أن يحلم الجميع بتوافق واحتشاد لتحقيق الأمل في المستقبل، ثم يفاجئنا أحد الحانقين «بكرسي في الكلوب» يريد به أن يطفئ البهجة ويشيع الظلام في السرادق المنصوب.