أفق
تناوبٌ بين اليمينِ واليسارِ
تاريخ النشر : الأربعاء ١ فبراير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
حين دخل العربُ العصرَ الحديث راح الدينيون يفقدون حضورَهم وتتالت الموجاتُ الليبرالية وسقطتْ الامبراطورية العثمانية وتدفقت الترجمة والمؤثراتُ من الغرب وأنشئتْ الثقافة الحديثة المُعربة وظهرت الأحزابُ والبرلمانات، فعاشت المؤسساتُ الدينيةُ في أزمة، وغدا حضورها محدوداً.
كانت الشعوبُ تريدُ التغييرَ ورحيلَ كوابيس العصور الوسطى والأمية والتخلف والفقر وتطور الحريات وصعود النساء، فظهر اليسارُ بشكلِ الليبرالية التي تدفقت على الدول العربية على شكلِ موجاتٍ حتى توقفتْ بعد الحرب العالمية الثانية.
حدثتْ الليبراليةُ في دوائر صغيرةٍ في العواصم، وتبنتها خصوصاً عائلاتُ التجار، وعبرها عرفتْ المجتمعاتُ العربية أشكالَ النهضة، لكن هذه النهضات كانت ذات دوائر محدودة، وتحولت الموجاتُ الليبراليةُ إلى يمينٍ واهن، فشلَ في تطوير حركات التحول وضعفت قواعدهُ الجماهيرية وتجمد في أشكال نضاله، وقراءاته للواقع.
تناولَ اليسارُ الرايات من اليمين واندفع في جذب المجتمعات العربية نحو قفزات تحولية، تغييراً للمُلكيات وأشكال الحكم وطبائع الأحزاب وأسسها التنظيمية فغلب العمل السري، والانقلابات والثورات المسلحة، والقفزات السياسية، فاتسعت دائرة التغييرات حتى شملت كل بلد، وعمت الثقافة التحديثية الوطن العربي، وغدت أشكالُ الثقافة الفنية والأدبية والفكرية جماهيرية.
لكن ثقافات اليسار توقفت وتجمدت فقدراتها على تبدل قوى الإنتاج تركزت عند ملكيات الدول، والمركزيات أدت إلى دكتاتوريات، وتجمدَ تطورُ التنظيمات السياسية، بعدم القدرة على تحليل الواقع العربي وفهم قوانين تطوره، واتضح سرابُ (الاشتراكية) العربية والعالمية السابق.
القوى الدينية التي كانت قبل الحرب العالمية الأولى محدودةً استعادتْ حضورَها بشكلٍ واسع في الستينيات من القرن العشرين، بسبب تطور منطقة الخليج والجزيرة العربية وإيران نفطياً، عبر أنظمة محافظة، وبسبب أزمات أنظمة الرأسماليات الحكومية اليسارية وفشل التنميات فيها، وهزائمها العسكرية في مصر والعراق واليمن الجنوبي، وتجميد التنظيمات والنقابات التقدمية والحريات.
تنامت الحركاتُ الدينية مع التطورات الرأسمالية الخاصة الواسعة، وبتجمد القطاعات العامة، وسقوط المعسكر الاشتراكي، وانتشار التطورات العولمية الرأسمالية العاصفة، والوحدات القومية والقارية الكبرى.
الأسواق القومية تتنامى على شكل غير مسبوق كما تتصارع الرأسماليات على الأسواق، والجماهير العمالية ضائعة ودائخة من الأنظمة الاشتراكية السابقة والأنظمة الرأسمالية المتصاعدة على أنقاضها.
الحراك الآن للفئات الوسطى التي أصبحت لها دخول عالية واستفادت من قطاعات عامة فاسدة وقطاعات عامة جديدة مراقبة وتحولات الإنتاج في العديد من الدول، وهذه الفئاتُ تستثمرُ وجودَ الفقراء المهمشين ومتدني الوعي، وتحركهم في تنظيماتها وأنظمتها الجديدة، في منظومات الزكاة والصدقة، لا منظومات الأجور وتعاون القطاعات العامة والخاصة على أساس ديمقراطي نهضوي لإزالة الفقر والبطالة.
لابد من الانتظار بضع سنوات لرؤية ما يتجلى من هذه الأنظمة ومدى قدرتها على معالجات القضايا المحورية من التطور المعيشي وهي تغيير ظروف البطالة والفقر والهجرة والتلوث والتخلف، وتوسيع التطور الديمقراطي بمدى قدرة الفئات الوسطى الجديدة على احترام تعهداتها بالتنوع والتناوب الديمقراطي وتوسع قواعد السلطات.
يغدو التناوب بين التيارات السياسية الاجتماعية في بعض الأقطار العربية الرئيسية على أساس الأجيال والمراحل التاريخية المرتبطة عموماً بتآكل استبداديات الشرق، ودخولها في الاقتصاد العالمي، فإذا أخفقتْ الحكوماتُ الجديدة في تعهداتها ولم تستطع أن تقيمَ تنمياتٍ وطنيةً تشمل الطبقات كافة واقتصرت على فئات مدنية قليلة، أو تراخت في ذلك، ولم تقم بالبرنامج القومي العربي المطلوب من الدخول في الثورة الصناعية التقنية الجديدة ورفع العرب لمستواها، فإن عصراً يسارياً جديداً سوف يبزغُ ثانية، ويعتمد على مدى توافر التحولات الديمقراطية داخله، ومدى نمو علاقاته مع القوى الشعبية واستفاداته من الأدوات الديمقراطية المتاحة وفشل أو قصور القوى الدينية في تحقيق الأهداف المرجوة للشعوب.
تناوبُ العصور بين البناء والهدم المدمر غدا مكلفاً وذا زمنية طويلة مرهقة، وأصبح المطلوب تقدير كل وجهات النظر لتأخذ فرصها على التغيير وتقديم جوانب في الاقتصاد والحياة الاجتماعية قصرت فيها الاتجاهات الأخرى، فيصير التاريخ العربي تاريخَ تعاونٍ كثيفٍ زاخر بين القوى السياسية الاجتماعية واختلافها ونموها القومي المشترك.