أفق
الأيديولوجيا والعنف في المشرق
تاريخ النشر : الخميس ٢ فبراير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
في الجزيرةِ العربية والخليج وفي لحظاتِ تداخل الطائفتين المحدود التي تأتي من وجودِ قطاعاتٍ عامةٍ عقلانيةِ في توزيعِ المال العام، وفي هيمنةِ الصراع الوطني ضد الأجانب، يستطيع الوعي الديني السياسي أن يقاربَ بعضَ أجندة الحداثة، ويرفضُ أغلبَها، خاصةً منهجية البحث وكشف قوانين الصراع الاجتماعي بغض النظر عن الطائفتين ومصالحهما وتاريخهما.
الوعي السطحي السائدُ يركز في السياسة القشورية كصراعاتِ دولٍ بلا طبقاتِها الصانعة لها، وعلى هذه الظواهرِ الفوقية ذاتِ الجذور غير المرئية. فهناك رفضٌ للاتحاد السوفيتي وخاصةً توسعه وامتداده إلى افغانستان، في حركتهِ هذه المخربة غيرِ الكاشفة لطبيعة العالم الإسلامي، ونظراً لدكتاتوريةٍ بيروقراطية طويلة اهترأتْ ولم تستطعْ أن تطورَ أدواتَ التحليلِ الماركسي.
أشكالُ الوعي الطائفي السياسي تجمعتْ ضد هذا الغزو، وتداخلت مع الغربِ المتمدد والمسيطر.
لقد تقاربت الرأسمالياتُ الحكومية الوليدة في المنطقة مع الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، فالامتدادُ السوفيتي في العراق ولّد نظاماً استبدادياً دموياً، والامتدادات الغربية في الأنظمة الخليجية وإيران ولدتْ رأسماليات حكومية شمولية لم تشكلْ تجاربَ ديمقراطية وتؤسسْ تعاوناً إسلامياً ديمقراطياً.
فقامتْ ظاهرةُ التعاونِ الخليجي الغربي الإيراني لسحق تجربة التطور السياسي في افغانستان بتكريسِ الطائفياتِ الواسعة المتعددة بين مسلحةٍ وغير مسلحة.
كان هذا من بداياتِ الانهيارِ للمجتمعات الوطنية الواعدة، التي تنامتْ بأشكالٍ وحشية أو عبر دكتاتورية طائفية حادة كما في العراق وإيران، وكان ردّ الغرب المُمثل في قيادته الأمريكية يتوجه لاستيعابِ فقدانه المستعمرة الإيرانية التي تحولت تحولاً عاصفاً سياسياً عن معسكره السياسي، وإن لم تخرجْ من معسكرهِ الاقتصادي، فالسوقُ الإيرانية لم يزل قسمٌ مهمٌ منها يتداخلُ مع السوق الرأسمالية العالمية.
لكن السوق الرأسمالية الإيرانية العامة سوف تتوجه لروسيا الاتحادية ممولة السلاح خاصة، لهذا فإن الغرب سوف يوسعُ حضورَ النظامِ العراقي في المنطقة، تقويةً اقتصاديةً وتسليحاً وغضاً عن صفقاتٍ روسية كبيرة، بهدفِ الهجوم على إيران كخصمٍ راح يبرز بقوة ماضوية خارقةٍ للحدود.
القراءاتُ الديمقراطيةُ غيرُ موجودةٍ في الوعي الرسمي الغربي حيث تقوم شركاتُ النفط والسلاح بتحديد أجندة السياسات الخارجية، وشم روائح الثروات والأسواق.
ودولُ الخليج العربية في تأسيسها ونموها كرأسماليات حكومية شمولية، تنامتْ على أسسِ السكان والموارد والسياساتِ الاقتصادية السابقة، فليس ثمة خرائط مُسبقة للتطور بل هي العفوياتُ الاقتصادية السياسية المتعددة، تتنامى حسب المتغيرات السياسية البارزة القوية وتملك الثروة.
فالتجاربُ الديمقراطيةُ الجنينيةُ لم تنمُ، أو تجمدتْ في عروض انتخابية وفي نوبات قلبية مفاجئة للبرلمانات، أو في تجمد للوعي الديمقراطي عن أن يكون حفارات تغيير نهضوية وطنية كبيرة.
أي رأسماليةِ دولةٍ شمولية كبيرة تكون مهمة للغرب ومحببة حسب أسواقها التي تسيلُ اللعابَ الاقتصادي، بشرط ألا تنزلق للعنفِ وتهديد المصالح النفطية، وبهذا انقلبتْ الجمهوريةُ العراقية المحتضنةُ للأشقاء عبر جيشها الدموي خطيرةً ومحاصرةً ومضروبة ومُكتسحة في مركزيتها وقومياتها وطوائفها، فصارت غباراً سياسياً زجاجياً في العيون القطرية.
انكسارُ الوعي الشعبي التوحيدي في روسيا عبر المستنقع الأفغاني وهو المُعبرُ عن الانهيارِ العمالي الداخلي وبروز المافيا كسلطة كبرى، هو نفسه الذي جرى في العراق ثم في إيران .
انكسارُ الوعي الشعبي التوحيدي وبوصلته الأولى في الماركسية ثم في البعث، ثم في الاثني عشرية ، هو الذي أوجد الفُتات السياسي الطائفي المتكاثر كالطحالب بعد سقوط الأمطار النفطية، وتنامي الأجهزة العسكرية والتجارة بالعمال الأجانب.
لا يهم الغرب الذي هو في السياسة الخارجية ليس ديمقراطياً ولا علمانياً، فما يحددهُ هو شم روائح النفط المخدرة لأجهزة تحسسه العلمية، بل يهمه التفتيت وتحجيم الدول الكبيرة وعدم تحولها لقوى مسلحة كبرى أو تؤسس تملكاً إنتاجياً شاملاً للمادة الزيتية المؤقتة، وبضرورة سيلان النفط لعروقه اليابسة في المصانع والمؤسسات والمواصلات هذه العروق التي تبقيه حياً ومسيطراً على البشرية.
هكذا راحتْ الدولُ والجماعات السياسية تنزلق في البحيرة الطائفية الواسعة، مع انهيار الإيديولوجيات الكبرى التوحيدية، وهي التي غرست هذه السطحية في الوعي، والتقلبات، والتشقلبات، ومسرح الكراسي الموسيقية الذي لا يتوقف، واسطوانات الجمل والشعارات وغياب المنهجية التحليلية العلمية.
الرأسماليات الحكومية الشمولية لا تعرف كيف تؤسس الأسواق الحرة، وكيف تنمي القواعد الانتاجية وتصهر القوى العاملة الوطنية في بوتقاتها، لأن الرأسمالية الوطنية التوحيدية لا تمشي مع الشمولية، وهدر الموارد للخارج، ولبذخ القلة، بل تعتمد على تطور القطاعات الانتاجية في كل الخريطة الوطنية، وأن تتحول من بائع للمواد الخام إلى صانع لها.
ويتحول المهمشون والسطحيون إلى منتجين للمواد الصناعية والفكرية، سواء كانت هذه قطعة إسفنجا أو قولاً فقهياً أو رأياً سياسياً.