قضايا و آراء
عبدالحميد مهري: الصبر هو الدواء
تاريخ النشر : الثلاثاء ٧ فبراير ٢٠١٢
كأن الجزائر، بل الأمة بأسرها، كانتا تتنفسان من رئتيه حتى أعياهما ضيق التنفس فتآكل نسيجهما تدريجاً، ولم تستطع كل أجهزة التنفس الصحية ان تعوض ما كان يبدو انه ضيق وطن وحال أمة.
لم يكن عبدالحميد مهري قائداً عابراً أو عادياً في حياة بلده وأمته، بل كان واحداً ممن تركوا ابلغ البصمات في المحطات الحاسمة من تاريخ الجزائر والعرب، فكان ابن الحركة الوطنية قبل الثورة، وابن الثورة قبل الاستقلال، وابن الاستقلال قبل أن تعصف المصالح الصغيرة بعظمة الانجاز التاريخي، وابن التحّول الديمقراطي في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وأحد رموزه، قبل أن تطيح التطورات بذاك التحوّل وبه من الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني الجزائري.
خلال تسلمه المسؤوليات الوزارية والدبلوماسية كان مسلّحاً بالتواضع، ككل واثق بنفسه، وخلال ابتعاده عن المناصب والمواقع كان مسلحاً بالموضوعية، فكسب احترام من عارضهم الرؤى، وهم قلة، وكسب حب ومودة وإعجاب من وافقهم الرأي وهم الكثرة بين أبناء الجزائر.
لم تصرفه يوماً انشغالاته بالشأن الوطني الجزائري عن الاهتمام بقضايا أمته العربية، ولاسيّما قضية فلسطين، فبقي كزميله الراحل الفقيه محمد البصري، وغيرهما جسور تواصل وتفاعل وتضامن بين مغرب الأمة ومشرقها، كيف لا وقد أمضى مهري سنوات من عمر الثورة متنقلاً بين أقطار المشرق العربي يحشد القوى لدعم ثورة نوفمبر التحريرية، فبات صديقاً لكل من عرفه، كما بات عالماً بشؤون المشرق العربي وشجونه المعقدة متفوقا بذلك على علم الكثيرين من ساسة المشرق الغارقين بالصغائر والمنافع والمصالح العابرة؟
وفي كل أطر التحاور والتشاور العربية والدولية التي كان أبو سهيل وسهى وسامية من مؤسسيها ورموزها كان صوتاً للمبدأ بوجه نزعات التفريط، وللعقل بوجه نوازع الانفعال، وللوجدان القومي الجامع بوجه الصراعات الفئوية الضيقة، فكان حاملاً لتجربة ثمينة في ثورته يضعها بتصرف كل الثوار والمناضلين العرب، وكان مشعلاً للعروبة والإسلام في بلده الجزائر أميناً لقول الشيخ الراحل عبدالحميد بن باديس - رحمه الله -:
شعب الجزائر مسلم
والى العروبة ينتسب
وبقدر ما كان الراحل الكبير ملتزماً بالمبادئ، كان ذا حس نقدي عالٍ مدركاً أن مواجهة العبث الأجنبي بمقدراتنا يحتاج إلى معالجة كل أشكال الخلل الداخلي من فساد واستبداد ، كما يحتاج إلى إسقاط أي رهان على تدخل أجنبي في شؤوننا لأنه كما كان يقول دائماً «ما دخل التدخل الاجنبي بلداً إلا وأفسده ودمره».
في سيرته الشخصية كان رمزاً للوفاء والصدق والشهامة، بل للجرأة من دون تبجح، وللشجاعة من دون استعراض، وللكرامة من دون منّة، وللعنفوان من دون تعالٍ.
حين ألقيت نظرتي الأخيرة عليه في المستشفى العسكري في الجزائر قبل يومين من الرحيل الأخير، وقد كان في غيبوبة طويلة، هزتني صورة هذا الرجل الممتلئ حيوية ونشاطاً رغم تجاوزه الـ 85 عاماً من عمره وقد بات اليوم راكداً من دون حراك. وتذكرت لقاءنا به في أواخر مايو المنصرم في الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر القومي العربي، فيما عواصف الثورة وزلازل التغيير تعصف بالأمة كلها. فقد كان يومها مبتهجاً بثورة الشعوب وحذراً مما يحاك لها، كان متفائلاً بمستقبل الأمة ومتنبهاً إلى مشاريع الإجهاض التي عرفتها الأمة في مراحل سابقة.
كان أسلوبه في إقناع الآخرين جميلاً، فكلما اشتد النقاش من حوله، كان يسحب من جعبته الغزيرة بالتجارب حكاية يرويها بهدوء مشوق، وبلغة فصيحة ويدعونا إلى الاقتداء بها.
وأذكر انه كلما كنت أمر، أو أحد الاخوة، بلحظة غضب وانفعال، يروي لنا قصة مجاهد جزائري كبير كان يصطحب معه دفتراً إلى اجتماعات المجلس الوطني للثورة التي كانت تضج بالحوارات الصاخبة والنقاشات المطولة، وكان يجلس وهو يكتب باستمرار على كل ورقة من أوراق الدفتر جملة يكررها مئات المرات، أما الجملة فكانت «الصبر هو الدواء».
لم يكن عبدالحميد مهري رجلاً كبيراً، ومناضلاً عظيماً افتقدناه، بل كان مدرسة، تعلمنا، وسنتعلم منها، الكثير الكثير.
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.