محطات
ذات مرة في الأناضول
تاريخ النشر : السبت ١١ فبراير ٢٠١٢
«ذات مرة في الأناضول» فيلم درامي تركي من إنتاج سنة 2011 وقد أخرجه وشارك في كتابة السيناريو نوري بيلج سيلان.
تدار أحداث الفيلم حول تجربة حقيقية عاشها أحد كتاب الفيلم وهي تروي حكاية مجموعة من الرجال ينطلقون للبحث عن جثة رجل في سهول وهضاب منطقة الأناضول التي تشكل الجزء الأكبر من مساحة تركيا وقد كان قدامى اليونانيين يسمونها «أرض الشمس الساطعة».
بدأ عرض الفيلم في مختلف دور السينما في تركيا يوم 23 سبتمبر 2011 علما أنه عرض للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي الدولي في السنة الماضية وقد استطاع الفوز بالجائزة الكبرى مناصفة. اختير فيلم «ذات مرة في الأناضول» أيضا للمنافسة على نيل جائزة الأكاديمية السينمائية الأمريكية لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية.
تضم مجموعة الرجال ضابط شرطة ومدعيا عاما وبعض السائقين والموظفين وحفاري القبور وأفرادا من قوات الجندرمة إضافة إلى اثنين من المجرمين المشتبه بارتكابهما جريمة قتل الرجل.
ينطلق الجميع ذات ليلة مظلمة في مدينة تسمى «كيسكن» للبحث عن جثة رجل مدفونة في مكان غير معلوم. يتولى القاتل كينان (فراس تانين) إرشاد ضابط الشرطة من مكان إلى آخر ومن نبع مائي إلى آخر لأنه لم يكن في وقت ارتكاب الجريمة في كامل مداركه العقلية بل إنه كان تحت تأثير المخدرات ولم يستطع بالتالي تحديد الموقع الذي دفن فيه هو وشقيقه جثة الرجل. لعل ما زاد في صعوبة أعمال البحث والتفتيش تشابه التضاريس الجغرافية في سهول وهضاب منطقة الأناضول التركية. فكل مكان أو نبع يصلون إليه يبدو أشبه ما يكون بغيره من المواقع الأخرى.
خلال رحلة البحث عن جثة الرجل المغدور تنشأ علاقة بين الرجال الذين يتفاعلون فيما بين بعضهم بعضا من خلال التطرق إلى موضوعات تراوح ما بين الغث والسمين مثل شراب «الروب» وشرائح اللحم والتبول والعلاقات الأسرية، والزوجات، والطليقات والموت والحياة والانتحار والبنية الهرمية الاجتماعية والبيروقراطية والقيم الأخلاقية والماضي، والمستقبل والعمل، كما أنهم يتحدثون على وجه الخصوص في غياب بعضهم بعضا فترتسم الابتسامات على وجوههم ويعترفون لبعضهم بعضا بجانب من أسرارهم الدفينة ويعبرون عما يشعرون به من ذنب عن أغلب ما ارتكبوه خلال حياتهم الماضية.
قبل أن تنبلج خيوط الفجر الأولى يشعر ضابط الشرطة بالجوع فيذهب الجميع إلى أقرب قرية لتناول بعض الطعام. بعد الأكل يعترف القاتل بالسبب الذي جعله يجهز على الرجل ويحوله إلى جثة هامدة، فقد أقر بأن ابن الرجل القتيل هو في الحقيقة ابنه. بعد اعترافه بالجريمة تعقدت الأمور أكثر وازدادت عملية البحث عن الجثة صعوبة.
مع بزوغ شمس اليوم التالي يعثر المفتش وبقية الرجال معه على الجثة التي نقلت إلى المشرحة. استدعيت الزوجة للتعرف على جثة زوجها القتيل فأكدت الهوية وقالت «نعم» وهي الكلمة الوحيدة التي تنطق بها امرأة في فيلم «ذات مرة في الأناضول». بعد ذلك تبدأ عملية التشريح وقد عثر الطبيب الشرعي على التراب في فم الضحية ورئتيها وهو ما يثبت أنها دفنت حية تحت الأرض غير أن الطبيب تعمد عدم ذكر هذه المعلومة المهمة في تقريره الذي رفعه إلى المحكمة.
«ذات مرة في الأناضول» فيلم ميتافيزيقي يتحدث عن الحياة والموت وحدود المعرفة الإنسانية وقد تألق مخرجه من قبل في عدة أعمال سينمائية ناجحة وقد استطاع أن يفرض نفسه خلال الأعوام القليلة الماضية كواحد من أبرز المخرجين على الساحة السينمائية الدولية وكان آخر إنجازاته اللافتة فوزه عن جدارة بالجائزة الكبرى مناصفة في مهرجان كان السينمائي الدولي في دورة 2011.
بدأ الفيلم كعملية بحث بسيطة في إطار جريمة لتتطور أحداثه في عملية تأمل عميقة في معنى الحياة والموت والطبيعة الإنسانية. في البداية حرص المخرج على الإبقاء على المسافة التي تبقيه بعيدا عن شخصيات الفيلم حيث انه يصورهم على سبيل المثال من بعيد حتى يبرز مدى صغرهم وتناهيهم في علاقتهم مع العالم الكبير الذي يلفهم. في الحقيقة فإن هؤلاء الرجال يتوقفون في محطات متتالية وهم في رحلتهم الوجودية والميتافيزيقية، وعملية بحثهم عن جثة الرجل القتيل إنما يبحثون عن ماهية الإنسان الحي أكثر مما يفتشون عن الجثة المطمورة في مكان غير معلوم. صحيح أن جريمة قتل الرجل تمثل النقطة المركزية في الفيلم غير أن كل رجل يشارك في عملية البحث عن الجثة يذرف دمعة عندما يغوص في حياته الخاصة فهذا يتذكر زوجته المتوفاة وذاك يعود به ذاكرته إلى ذكرى حبيب ليتحول فيلم «ذات مرة في الأناضول» برمته إلى عملية غوص في لغز الوجود نفسه.
إن عنوان الفيلم يذكرنا بالفيلم الرائع الذي أخرجه سيرجيو ليون سنة 1968 واختار له عنوان: «ذات مرة في الغرب». إن فيلم «ذات مرة في الأناضول» عمل سينمائي متميز يطرح الكثير من القضايا ومن ضمنها العنف ومركب الذكورة فيما تلعب المرأة دورا حساسا في الفيلم على الرغم من غيابها عن الفيلم أو صمتها المتواصل الذي يغنيها في الحقيقة عن كل كلام.