قضايا و آراء
عندما يكون الهوى إلهًا !
تاريخ النشر : الأحد ١٢ فبراير ٢٠١٢
بعث الله الرسل الكرام ليهدوا البشرية إلى صراط الله المستقيم، وكانت دعوة التوحيد هي دعوة الأنبياء جميعا، قال تعالى في بيان واضح وصريح: «لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم» (الأعراف/59).
وقال تعالى: «وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون» (الأعراف/65).
وقال سبحانه وتعالى: «وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم» (الأعراف/73).
وهكذا جميع الرسل كانوا يحملون إلى أقوامهم الهداية والرشاد، فمن آمن منهم نجا وأفلح، ومن أعرض خاب وخسر.
ولأن الإيمان فطرة فطر الله الناس عليها ولا غنى للإنسان السوي عنها، فإن الذي يعرض عن عبادة ربه، وتوحيده يلجأ إلى آلهة أخرى، فمنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد الحجر، ومنهم من يعبد الأشخاص كما هو حال فرعون الذي ادعى الألوهية، وقال لقومه: أنا ربكم الأعلى، ولم يقل ربكم فقط ، بل وصف نفسه بالعلو حتى يصرف الناس إلى عبادته وحده من دون سواه: «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين» (القصص/38).
إذاً، هذا هو حال البشر مع التوحيد والشرك، ولكن هناك من اتبع إلها آخر، وهؤلاء هم عبدة الهوى، الذين قال الله فيهم: «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون» (الجاثية/23).
هذا البيان الرائع والواضح يكشف طائفة من الناس عشقت هواها، وباتت تتقرب إليه بشتى القربات على الرغم من علمها وتفوقها في مجالات العلوم الأخرى، فضلاً عن انها تملك من وسائل الاتصال وتحصيل العلم ما حولته إلى عدم فهي لا تستفيد من سمعها ولا من بصرها ولا حتى من قلبها، وقال الله تعالى عن هذه الطائفة المسرفة على نفسها: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون» (الأعراف/179).
إذا، فجميع مصادر التعلم والاتصال بالعالم الخارجي معطلة وبات مصدر العلم واتخاذ القرار هو الهوى الذي خطؤه أكثر من صوابه، وضلاله أكثر من هداياته.
وإذا كانت الوحدة نابعة من التوحيد كما قال الله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» (الأنبياء /92)، فإن التشرذم والتمزق نابعان من عبادة الهوى ، لأن لكل إنسان هوى مخالفا لهوى غيره، وبعدد الناس يكون عدد الأهواء، وهذا يعني تعدد الآلهة التي جاء الإسلام ليلغيها ويدعو الناس إلى إله واحد لا شريك له، واتباع الهوى ، بل اتخاذه إلهاً من دون الله يعطل ملكات الإنسان، ويسد عليه منافذ الاتصال بالعالم الخارجي، فلا يهتدي إلى الحق، ولا يصل إلى الصواب، قال تعالى: «واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا» الكهف/28).
حين يذل الإنسان لهواه، ويجعله حاكما لإرادته الحرة، موجها لفكره، ومهيمنا على قلبه وجوارحه، فإنه بذلك قد كتب شهادة موته معنويا وان كان بين الأحياء يعيش، إذ ما فائدة أن يكون الإنسان بجسده حيا، وهو بقلبه ووجدانه ومشاعره وأحاسيسه في عداد الأموات؟
إنسان قلبه مغلق، وهو وسيلته إلى الاتصال بالآخرين، وجهاز استقباله الذي إذا صلح، صلح باقي جسده، وإذا فسد وتعطل فسد باقي جسده وتعطل.
ففي سلامة القلب من الشرك والهوى، سلامة لباقي البدن، وسداد للرأي، وهداية للسعي، وفي مرض القلب، وتلوثه بالأمراض والأحقاد، مرض لباقي البدن، وتعطيل للجوارح كافة عن القيام بوظائفها الإيمانية.
والهوى حين يكون إلها يكون خطره على الإنسان أشد وأعظم، فهو إله معنوي لا يمكن تحسسه بالجوارح، أو الانعزال عنه، أو التخلص منه، بينما عبادة الآلهة الأخرى من شجر وحجر أو بشر تتيح للإنسان العابد لها فرصة التأمل، وإعادة النظر حيث ان العقل حر في التفكير لم يسيطر عليه الهوى، ولم يشل حركته، والدليل على خطورة الهوى حين يتمكن من صاحبه ويجعله عبداً ذليلاً، وقد يكون هذا الإنسان حاملاً لأعلى الشهادات، ومتخرجاً في أرقى الجامعات، وله في عالم الفكر مؤلفات، وفي عالم الاجتماع لقاءات ومجادلات وحوارات، وهو مع كل هذين الوعي والعلم يضل ويجعل من هواه إلها يعبده من دون الله تعالى.
والإنسان الذي صير هواه إلها وخر له ساجدا، هذا الإنسان يدور في حلقة مفرغة لا يعرف لها بداية ولا نهاية، فتراه يدور كما يدور الثور في الساقية، يبدأ حيث ينتهي، وينتهي حيث يبدأ. مواقفه متلونة بتلون أهوائه، فهو في هذه المسألة له موقف ورأي، وهو في المسألة الأخرى له موقف آخر ورأي مختلف، ذلك لأنه يعبد آلهة متعددة بتعدد أهوائه، وتكون ردود أفعاله تجاه ما يعرض له من قضايا له اليوم فيها رأي وله في الغد رأي آخر.
وهؤلاء الذين اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله، وجعلوا علمهم بل تفوقهم العلمي وبروزهم الفكري خادما لأهوائهم، ولا يدرك وعيهم المغيب من حقائق الوجود إلا الشكل الظاهري، قال الله تعالى عنهم: «وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون» (الجاثية/24).
هؤلاء هم الذين لا يعلمون من الدنيا إلا ظاهرها أما الآخرة فهم عنها غافلون، يقول الله تعالى: «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» (الروم /7).
ثم يقدم الحق تبارك وتعالى تساؤلا عجيبا لهؤلاء، فيقول سبحانه: «أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (8) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(9)» (الروم).
إن الحق تبارك وتعالى بهذه الأسئلة أو التساؤلات الاستنكارية يستنهض عقولهم ووعيهم وإدراكهم ليعملوها فيما حولهم وفي أنفسهم أولا قبل أن يتجولوا في آفاق الكون من حولهم، فهل بعد هذا يظلون على ولائهم لأهوائهم، وعبوديتهم لها؟