أفق
روسيا والصين من مساندةِ
الثورات إلى إجهاضِها (1-2)
تاريخ النشر : الاثنين ١٣ فبراير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
ليست مساندة روسيا والصين للنظام الدكتاتوري العنيف في سوريا شيئاً مستغرباً، بل هي جاءتْ في سلسلةٍ طويلة من تراجعات الدولتين عن شعبيهما أولاً، ثم جاءتْ السياسةُ الخارجيةُ كانعكاساتٍ لذلك التراجع العميق المتردي عبر عقود.
تدهورُ مواقع الطبقتين الحاكمتين من صفوفِ الفئات الوسطى والعمال وانزلاقهما لمواقع الطبقات البيروقراطية الاستغلالية جاءا من عدم قدرة القادة المنظرين والسياسيين على تبيان واقع التطور لمجتمعيهم ورفض طريق الديمقراطية والحداثة والعلمانية الغربية وابتكار أشكال لأنظمة دكتاتورية للنخب الحاكمة التي تحولت لقوى رأسمالية حكومية ثم تأزمتْ بعدمِ قدرتها على التحول لرأسمالياتٍ حرة، وبهذا تدهورتْ مفرداتُ الماركسية وتحليلاتها الموضوعية، وغدتْ لغاتٍ شعارية انتقائية انتهازية، تبررُ تدهورَ الطغم المالية والسياسية والعسكرية الحاكمة نحو الرأسمالية الحكومية الشمولية وانسداد آفاق التطور أمامها.
على مدى عقودٍ تمَّ ذلك وكان تباين روسيا والصين الايديولوجي بين تأييد للتعايش السلمي والدعوة إلى ثورات الأرياف في العالم الثالث ضد الغرب، الذي كان يمثل تباين واقع فساد كل من الطبقتين الحاكمتين في روسيا التي تشعبتْ بالثروة ونقلتْ المجتمع لمستوى أكثر تطوراً من جارتها، في حين واصلتْ القيادةُ الصينيةُ استنزافَ الجماهير العاملة عبر أجورٍ شبه وهمية.
لكن مسائل التطور الكبيرة لم تُحلْ بعد الارتكاز على الجهود الهائلة للجماهير الشعبية في البلدين، ففي أنظمةِ الرأسمالياتِ الحكومية التي بلغ فيها الفسادُ أكثر من ملكيةِ نصف الاقتصاد وتجذر هذا الفساد عبر عقود، وهو أمرٌ يشابه النظام الشمولي في سوريا حيث ملكتْ الطبقةُ الحاكمة أكثر من نصف الاقتصاد، فتصعب العودة لأنظمةٍ ديمقراطية مفتوحة، يتم فيها تبادل السلطة والنمو الحر للصحافة.
وتزداد المشكلات في حالات مثل هذه عبر أوضاعِ تداخلِ الحزب الحاكم بالمخابرات والجيش، فإذا كانت هذه الأجهزة هي التي تُسّيرُ النظامَ وقد تغلغلت في الإدارة المدنية، تتفاقم المشكلة لتصل إلى الانفجار الكارثي.
كما أن ضخامةَ هذه الدول واعتمادها على قوميةٍ مهيمنةٍ وديانة خاصة أو ايديولوجيا معبرة عن تاريخ الفساد المبطن، يجعلان العودة للحداثة الديمقراطية أمراً بالغ الصعوبة يشبه قيام حرب أهلية.
ولهذا فقد كانت روسيا والصين تراقبان الثوراتَ العربيةَ بقلق بالغ، فلم تكن مثل هذه الثورات البرجوازية الديمقراطية ممكنة في تاريخ البلدين الكبيرين، فهما لم تستطيعا القيام بها، فالثورةُ الروسيةُ في سنة 1905 حُطمتْ بالقوة، وجاءت ثورتا 1917، البرجوازية الأولى في فبراير من هذه السنة ثم البلشفية في أكتوبر من السنة نفسها لتعبرا عن إخفاقِ الثورةِ البرجوازية الديمقراطية، فلم تظهرْ طبقةٌ وسطى تقودُ المجتمعَ خلال العقود السابقة، فعجزتْ الثورةُ الأولى عن وقفِ الحرب ثم عن توزيع الأراضي على الفلاحين ونشر الحريات، وقامت الثورة البلشفية بها، لكن عبر تصعيد أجهزة الدكتاتورية من جيش ومخابرات أكلتْ المجتمعَ خلال العقود التالية، وعبر تحويل الكثير من المُلكيات لحكمِ الدولة، لتطويرِها ثم لنهبها وفسادها. وبهذا فقد ارتعبتْ الدولةُ في روسيا من هذا التطور(العجائبي) لشعوب متخلفة أن تُنزل الملايين للقيام بتغيير ديمقراطي.
إن روسيا والصين تريان المخلوقات السياسية التي ظهرت من خلال تأثيرهما، فكيف يمكن لتونس ومصر وسوريا أن تقوم بفعل كهذا؟
إننا نرى هنا سخريةَ التاريخ، فالحلقةُ الضعيفةُ في منظومة الرأسماليات الحكومية الشمولية هي التي تتفكك كما طُرحتْ تبريرات الثورات (الاشتراكية) في روسيا القيصرية، بينما تنضج النار والتحولات الرأسماليات الحكومية الكبيرة القوية لأعاصير قادمة، حيث ان المشكلات المحورية هي ذاتها، لكن رأسماليات الدول العربية حلقات ضعيفة لم تتأسسْ من تحولاتٍ عامة حكومية هائلة ونسب الفقر والبطالة فيها مرتفعة، ولم تعمل شيئاً كبيراً في فقر الأرياف التي ظلت تضخُ مشكلاتها للمدن وتُسّرعُ في انفجارها.
ولهذا فإن الأزمات تنفجرُ من الريف ومن حقول المناجم في المدن الصغيرة البرية، وهنا أيضاً يسخرُ التاريخُ من مقولاتِ (لين بياو) القائد الصيني الماوي الذي طالبَ بزحف الأرياف في العالم الثالث على المدنِ الغربية البرجوازية المتخمة، وها هي الجموع الفقيرة تصارعُ وتحاصر المدينتين الرأسماليتين السوريتين وتهزهما من الداخل، رغم الضرب بالمدافع على المدن الصغيرة والسكان المذبوحين.
لكن ورثة لين بياو لم يعودوا من الكادحين بل صاروا هم الذين يكنزون الذهب والفضة في المدن المتخمة، وراحوا يدافعون عن تلاميذهم وزملائهم في القضية المشتركة بأساليب دموية وحشية.