الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


روسيا والصين من مساندةِ الثوراتِ إلى إجهاضها (2-2)

تاريخ النشر : الثلاثاء ١٤ فبراير ٢٠١٢

عبدالله خليفة



قدمت روسيا شكلا كلاسيكيا في التدهور الثوري الديمقراطي، فقامت الثورةُ الأولى على القمع وشكلتْ نظاما شموليا، راح ينخرُ القيمَ النضالية على مر السنين، فصار بلد الصوت الواحد، وغياب التعدد وشلل ديمقراطية الأصوات وسيادة المركزية وحكم الجيش والمخابرات، وجاء هذا كله عبر هيمنة قومية روسية لم تتضح في البداية لكنها ظهرت من خلال التطور، وكانت جذورها في التقاليد القديمة للقبائل والطبقات القديمة ذات الحكم المركزي التي تريدُ الشعبَ نسخةً منها، أما مُلكية الدولةِ العامة وهي الانجاز النضالي الشعبي المحكوم بمثل هذه الظروف والتقاليد فقد اهترأت، وغدا من يعملون أشبه بالعبيد ومن لا يعملون كملاك العبيد، ومن هنا انتشرت ثقافة الصوت الواحد والعسكرة وعدم النقد وغياب التحليلات العميقة للبنى الاجتماعية.
لكن الانهيار حدث على مراحل عبر الانفكاك من القوميات الأخرى التي غدتْ ثقلاً على القومية الروسية المركزية، وفي تحول الموظفين الكبار إلى مافيا، وفي إدخال الرأسمالية الشخصية من النوافذ، وأن تكون تحت الهيمنة الحكومية وعبر استفادتها، لكن الثقافةَ الديمقراطيةَ لم تَحلْ، والتعدديات الحقيقية غدتْ مجردَ أشكالٍ خارجية، وظل الحكمُ العسكري هو المسيطرُ تحت لافتات الديمقراطية والانفتاح.
واصلت النزعةُ القومية الروسية بعد أن هدمتْ الأمميةَ احتكارَ السلطة عبر شكلها القومي البرجوازي المتعصب وعبر شكلها (الشيوعي) وريث الإدارة الشمولية والانغلاق الفكري في حين أن البرجوازية الخاصة التي نشأتْ من خلال هذه الظروف الحكومية ليست عميقة في نضالها الديمقراطي.
هكذا غدتْ الأزمةُ الروسية في التخلي عن أسلوبٍ متخيل هو النظام الاشتراكي الذي لم يُنفذ وإن نُفذتْ أشياء منه فهو لم يُستكمل، وغدا رأسمالية دولة لها أصحاب مصالح يدافعون عنها، كما أن رأسماليتَها الخاصةَ غير قادرةٍ على القيام بتحولٍ ديمقراطي شامل، فغدتْ العودةُ للوراء والوثبة للإمام صعبتين خطرتين، وبهذا يغدو الانفجارُ هو الحل، ولكنه انفجارٌ خطر ويُعبرُ عنه بحالةِ التأزم هذه وسط عالمٍ يموجُ بالانتخابات وتداول السلطة وتغييب الجمود، ورؤية ان الانفجارات التي صارت في بلدان مصر وتونس وليبيا وسوريا، واعدة بالكوارث للنظام الذي أنتجَ تلك المسوخ.
إضافةً للخسائر الماديةِ والسياسية الناجمة عنها، عبرَ تقلص المشترين وعدم وجود أصدقاء ومرافئ.
هذه الخطوط العريضة للتطور السياسي لا تختلف عما جرى في الصين وفي بلد أضخم سكاناً، وفي عمر أقصر، وبمزايدات أكثر، وبطاقات على التحول دينامكية كذلك.
ولهذا كانت الثورة الصناعية والثورة الثقافية هما محاولات للقفزات الكبرى في الصناعة وفي سحق الرأسمالية الخاصة وبوادر الليبرالية، لكن هذا التناقض بين صناعةٍ متطورة تملكها حكومةٌ بيروقراطية وبين رأسمالية خاصة تم الحفاظ عليه، عبر تحولهما لقطاع عامٍ هائل وقطاع خاص لقيط من الاقتصاد العام المهيمن.
صارتْ المافيا كما في روسيا وسوريا هي التي تقررُ الوحدات الاقتصادية والتنامي الاجتماعي الفكري، وبالتالي فإن مفردات الديمقراطية والتعددية وتداول السلطة ونشر الصحافة الحرة والأصوات السكانية المختلفة المتنامية في جرأتها واستقلالها الشخصي، لم تظهر وبقي طابع المجتمع العسكري والوحدات البوقية، وهذا كله تعبيرات عن اختلال توزيع الثروة على الطبقات والسكان والمناطق الجغرافية والقوميات الكثيرة.
منذ أن قررَ ماوتسي تونج أن يعسكرَ المجتمع اقتصادا وثقافة ولباساً وأكلاً لم تتغيرْ أشياء جوهرية سوى حدوث التنمية الكبيرة عبر تنويع أشكال علاقات الإنتاج، من دون أن يتغير العسكري المسيطر الموزع لثمار هذه العلاقات الإنتاجية للجماعات والفئات والأقسام القومية الموالية له، في حين أن هناك ملايين خارج هذه العلاقات يهددون باختراقها.
وهذا العسكري لديه قوى هائلة أثبتت قدرتها على ضرب الاحتجاجات التي ما كانت احتجاجات صينية واسعة، وها هي الآن الثورات العربية تقدمُ نماذجَ لتوسيع الاحتجاجات وتعلم شعوبَ روسيا والصين كيف تتخلص من مستغليهم باسم الاشتراكية وباسم القومية إلى الديمقراطية.
هذا نوعٌ من التراكم النضالي بين شعوب آسيا خاصةً وتبادل خبرة أممية، وتصعيدٌ للديمقراطية ولتوزيع الثروات والفوائض بأشكال عقلانية، لكن الرأسماليات الحكومية تفرضُ أجوراً ومعيشة متدنية على الجمهور العامل وتضع قسماً كبيراً من فائض القيمة لرفاهيتها وعسكرتها، ولابد أن يكون من برامج الثورات العربية تغيير ذلك، لكي تعطي نموذجاً لتلك الشعوب بأن الثورات والتحولات ليست فوضى وخرائب وعودة للوراء.
(بضاعتكم رُدت إليكم) ولكن في الملحمة السورية تكشف عفن البضاعة المستوردة وهي لا تتحول إلى استغلال بشع للملايين بل إلى فوهات مدافع تدك السكان، وهي (مأثرة) من ميدان تيان مين ولكن بصور فاشية واسعة موجهة للشعب المنتمي للطبقة الحاكمة نفسها وهو أمرٌ لم تبتكرهُ الفاشية في أوروبا بكل جنونها الدموي لكنه نتاج الدكتاتوريات الشرقية وتطويرها المخيف لها.
لكن ثمة بضاعة أخرى تقدمها الشعوب العربية مختلفة وإنسانية.