قضايا و آراء
«ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر» (الإسراء 70)
تاريخ النشر : الثلاثاء ١٤ فبراير ٢٠١٢
خلال العام المنصرم وتحديدا منذ يناير العام الماضي شهد العالم العربي صراعا في كثير من الدول العربية تحول في بعض الدول الى قتال مسلح كما في ليبيا وتمكن من حسم المعركة في تونس ومصر، وان لم يحقق جميع اهدافه بعد ومازال يناضل في سوريا واليمن لكسب معركته باذن الله، فماذا كانت اسس هذا الصراع؟ يدور الصراع بين مفهوم الانسان المواطن ومفهوم الدولة الذي تحول من ملاذ للمواطن الى نقمة عليه، ومازال انصار مفهوم الدولة ينازعون متمسكين ببقايا شعارات باهتة.
نرى ان اسس هذا الصراع وبداية الانحراف العربي تعودان الى الخمسينيات من القرن الماضي وحركات التحرر المتعاقبة من الاستعمار الاجنبي. قامت حركات التحرر على اساس حرية الدولة من الاستعمار وليست حرية الفرد من الظلم والاستعباد. في تلك الفترة حملت القيادات العربية شعارات الوحدة لتؤسس دولة قوية تدافع عن الامة، ولم يمض وقت طول حتى تحولت تلك الحماية الى وصاية على الفرد والمجتمع من قبل النخب الحاكمة وجماعات متسلطة مستبدة احتاجت الى حماية نفسها من المجتمع فأخضعت المواطن لأجهزة امنية تدفعه إلى تأليه النظام وتقديس الدولة وزرع قيم التضحية والولاء والوفاء لهم، فاكتسبت الدولة قيمة مضخمة في ذهنية المواطن ورخص بالغالي والنفيس في وهم الذود عنها، وأسهم في تكريس هذه الذهنية شيوخ دين سخَّروا فتاواهم لخدمة القائد الفذ وحولوا الدين الى عبادات فقط ولم يحثوا على قيم العدل والمساواة بين الناس ورفض الظلم. كما أسهم في تكريسها رجال مال واعوان رأوا فرصتهم في ظل المستبد، وتوهم المواطن ان ما يقوم به هو خدمة وطنية وانه يسهم في بناء دولة قوية ستخدمه وتؤمن مستقبل ابنائه.
ماذا فعل القائد الفذ بالدولة وكيف تم بناؤها؟ لم تتمكن الدولة من بناء جيش قادر على حمايتها وخسرت كل معاركها، لم تتمكن اي منها من بناء اقتصاد يؤمن العيش الكريم لمواطنيها، لم تحافظ على استقلالها الذي قاتلت من اجله واصبحت تأتمر لأعدائها وترضخ لقوى الاستعمار التي عملت جاهدة على طردها من بلادها. لم تحقق تقدما في مجال العلم ولا في مجال الانتاج الصناعي، بل تدهورت القدرات الزراعية التي كانت في يوم تطعم مواطنيها. تشرد ابناؤها في جميع انحاء الارض طلبا للقمة العيش فهلك البعض دونها. بُددت الثروات التي حباها الله بها على مغامرات وعبث ابناء قادتها بمقدرات الامة وتوارثوا الحكم ليؤكدوا زيف ادعاءاتهم بالوطنية والمصلحة العامة ورهنوا الدولة للمساعدات الخارجية.
تدريجيا تحولت الدولة الى رمزية القائد الفذ المناضل واصبحت اجهزة الدولة خاضعة لارادته واختزل الولاء والطاعة له وتحول امن الدولة الى امن النظام وحماية القائد الفذ من المجتمع والمناوئين له، وانشغلت جميع اجهزة الدولة بتصويره على انه عبقرية فذة لا تتحرك الوزارات الا بتوجيهاته ولا يؤخذ قرار الا بارادته. وفي هذا الانشغال نسيت الدولة ان هناك مواطنا وهناك مجتمعا يريدان ان يعيشا وان يتعلما ويزرعا ويأكلا ويصنعا ويلبسا. اختلطت الاولويات فأصبح الأمن، ثم الأمن، ثم الأمن، هو الاولوية الاولى، كلمة حق اريد بها باطل.
حاول العالم العربي بناء دولة على انقاض الفرد والمجتمع ولكنه فشل لأنه لم ير ان الدولة هي ليست سوى اجهزة تنظم حياة الناس والمجتمع وبالتالي فهي نتاج تفاعل مجتمعي بين افراد احرار تخلوا عن جزء من حريتهم في سبيل بناء مجتمع يخدمهم كأفراد. خلق الله الانسان واودع فيه غريزتي البقاء والارتقاء واخضع له المادة من خلال نواميس الطبيعة التي عليه ان يكتشفها لكي يطوعها لخدمته، وها
تان الغريزتان هما ما يدفعه الى العمل والبناء والتكاثر وتنظيم نفسه بمحض ارادته لدرء المخاطر وجلب المنافع، والدولة هي نتاج هذا التنظيم، فهي اذاً اداة لخدمة الانسان في سعيه نحو الرقي والتقدم، وبالتالي فان الانسان هو الاساس ليس قولا بل عملا.
ان بناء الدولة يكون من خلال بناء هذا الانسان، ليكون قائدا وحاكما وصانعا وعالما وعاملا، ولتفعيل حكمة الله في خلقه، يتم ذلك وفق ناموس التدافع والتنافس الذي وضعه الله في الانسان لكي يرتقي وليس وفق تراتيب عائلية او قبلية او اي عصبية اخرى، فلا يمكن ان ترتقي الامة من دون ان تكون قاعدة الارتقاء معمولا بها بين ابناء الامة، فالتدافع بين المواطنين هو من اسس الارتقاء والتقدم. لا يمكن تحقيق التقدم والارتقاء في مجتمع يقف في وجه طموح الشباب إلى المناصب من خلال نظام المحسوبية وابن القائد الفذ هو بالضرورة فذ.
صحا المواطن المخدوع على وهم الدولة المنحلة التي تخدم القائد الفذ وعائلته النجباء فثار ثورة لن تهدأ قبل ان يتم تصحيح المفاهيم، ويعود الانسان هو الاساس وتكون الدولة كما هو مقرر لها عقدا بين الناس على انشاء كيان يمثل ارادتهم ويرعى مصالحهم ويلبي طموحاتهم ويحفظ امنهم.
في بداية هذا العام اخيرا دخل العالم العربي مرحلة انهاء الصراع هذا ليؤسس لمفهوم الانسان المواطن ونبذ مفهوم الدولة الذي ساد منذ الستينيات الى يومنا هذا. ثار العالم العربي ليؤسس لقيم الحرية والعدالة والمساواة بين الناس على اسس جديدة من تكافؤ الفرص ومن الديمقراطية التي تجلب الأمن وليس الأمن الذي يجلب سكون القبور.
ثار ليعيد الامور الى نصابها ويجعل الانسان الذي كرمه الله في اولى اولويات الاصلاح والمجتمع هو الحافظ لهذه الاولوية والمدافع عنها، والدولة هي الحاضنة له والمقدسة لحقوقه في ان يحلم ليصبح ما يريد من دون خوف.