شرق و غرب
روسيا بعد عشرين سنة من سقوط الاتحاد السوفيتي
تاريخ النشر : الخميس ١٦ فبراير ٢٠١٢
قبل عشرين سنة من الآن اصطحبت زوجتي أطفالنا إلى الساحة الحمراء في موسكو. أما أنا فقد اضطررت للبقاء في مكتب صحيفة نيويورك تايمز لأن الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف قد استقال من منصبه صباح ذلك اليوم وكان يتأهب لإلقاء كلمة يتوجه بها إلى الشعب في تلك الليلة.
كان الطقس قاتما والبرد شديدا والساحة الحمراء شبه مقفرة إلا من بعض المارة والناس. ذلك ما أخبرتني به زوجتي وأطفالي لدى عودتهم ذلك اليوم على جناح السرعة، فقد أخبروني أنهم شاهدوا عملية إنزال العلم السوفيتي الذي يحمل شعر العمال والبروليتاريا: المطرقة والمنجل، ليتم استبدال العلم الروسي الأبيض والأزرق والأحمر الذي أصبح يرفرف فوق مبنى الكرملين أول مرة على مدى 75 سنة به. يومها لم يعد للاتحاد السوفيتي أي وجود.
لقد كانت تلك بلا شك لحظة فارقة في تاريخ القرن العشرين، لحظة مثلت نهاية تجربة طوباوية كان هدفها في البداية بناء مجتمع غير أن الأمر انتهى بها في نهاية المطاف إلى إبادة ما لا يقل عن عشرة ملايين شخص وقمع بقية الشعب الروسي ومعه نصف الشعوب الأوروبية التي كانت تئن تحت نير الهيمنة السوفيتية.
رغم أن تلك اللحظة كانت تاريخية وفارقة فإنه لم تكن هناك اي احتفالات في ذلك اليوم ولا اليوم الذي تلاه، فقد جاءت تلك اللحظة الفارقة بعد طول انتظار حتى انها لم تشعر الناس بأي نشوة كبيرة. كان الرئيس ميخائيل جورباتشوف قد أمضى في سدة الحكم سبع سنوات عمل خلالها على تخفيف القيود السوفيتية الصارمة على الدولة والمؤسسات. في تلك الأثناء أصبح الاقتصاد السوفيتي في تلك الفترة في حالة يرثى لها، فقد كانت المحال التجارية فارغة، وخاوية على عروشها، وانهارت الأوضاع الأمنية في شوارع المدن. أما الشعب الروسي فقد ضاق ذرعا بعد سلسلة طويلة من الاصلاحات والصراعات السياسية والمظاهرات والصدامات.
لقد انفصلت جميع الجمهوريات السوفيتية السابقة كما أن الدول الأوروبية الشرقية، بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا والمجر قد تحررت من هيمنة الأنظمة المفروضة عليها من سلطات الكرملين. في الحقيقة لا تتمثل المفاجأة في انهيار الاتحاد السوفيتي بقدر ما تتمثل في نجاح الامبراطورية السوفيتية في البقاء طوال تلك العقود.
لقد عادتني ذكريات تلك التحولات الكبيرة: انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال الجمهوريات التي كانت تدور في فلكه وانعتاق بلدان أوروبا الشرقية والوسطى ونهاية الحرب الباردة، لدى سماعي خبر وفاة الكاتب المسرحي التشيكي الشجاع فاكلاف هافيل، الذي رفض بكل جرأة الخضوع للهيمنة الشيوعية السوفيتية وهو الموقف التاريخي الذي قاده بعد ذلك إلى تولي سدة الرئاسة في جمهورية التشيك الحرة.
في الحقيقة يجب ألا تكون الثورة أو انهيار الحكومة أو النظام الحاكم مدعاة للاحتفال لأن مثل هذه الأحداث تمثل دليلا على فشل الحكم الرشيد بقدر ما تعكس الفشل في تغيير النظام الحاكم بالوسائل والأساليب الديمقراطية. لقد كان يجب أن يمضي فاكلاف هافيل أزهى سنوات عمره وهو يكتب المسرحيات لا أن يظل أعواما طويلة يقبع في السجن أو يناضل ضد النظام القمعي الحاكم في بلاده.
ومثلما رأينا في الكثير من الجمهوريات السوفيتية السابقة والكثير من الأماكن الأخرى في العالم فإن «تغيير النظام السياسي الحاكم» لا يعني بالضرورة أن النظام الحاكم الذي سيأتي بعده سيكون أفضل منه، فقد خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين في موسكو والعديد من المدن الروسية الأخرى للتنديد بتزوير الانتخابات البرلمانية التي أجريت مؤخرا في روسيا.
أما رئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو ونظيره رئيس أوزبكستان إسلام كاريموف فهما يحملان كل مواصفات الدكتاتور الموروث عن الحقبة السوفيتية. أما في أوكرانيا فبعد مرور خمسة أعوام على الثورة البرتقالية التي أسقطت فوز الرئيس فيكتور يانوكوفيتش في انتخابات مزورة فإن الناخبين الأوكرانيين قد عادوا لينتخبوه على أي حال. لذلك فإنه لا توجد أي ضمانة على أن الثورات تؤدي بالضرورة إلى القطع مع الدكتاتورية والفساد وتؤسس لقيام أنظمة ديمقراطية.
خلال تلك الأيام التي كان فيها الاتحاد السوفيتي يحتضر تباينت مشاعر الكثير من الناس، سواء في روسيا أو في الجمهوريات السوفيتية السابقة أو في بلدان أوروبا الشرقية والوسطى. صحيح أنهم كانوا منتشين بما تحقق للشعوب من حرية غير أنهم كانوا يشعرون بأن بلدانهم تقفز في المجهول.
لقد فشلت كل الاصلاحات الاقتصادية التي أطلقها الرئيس ميخائيل جورباتشوف كما عرفت الاصلاحات الاقتصادية التي نفذها بوريس يلتسين عقب انهيار الاتحاد السوفيتي المصير نفسه حيث ان ظروف عيش قطاعات واسعة من المجتمع الروسي قد ازدادت سوءا فيما افتقد الناس معنى الأمن وهم الذين كانوا يعيشون على مدى عقود تحت القمع والاستبداد.
رغم أن جوزيف ستالين كان حاكما مستبدا ورغم الجرائم الكبيرة التي ارتكبها فإن الكثير من الروس قد بكوا عند وفاته ليس حبا فيه بل خوفا مما سيأتي بعده. لقد أجهش الكوريون الشماليون أيضا بالبكاء عند اعلان وفاة زعيمهم كيم يونج إيل للسبب نفسه.
في ليلة سقوط الاتحاد السوفيتي كتبت صحيفة كومسومولسكايا برافدا تقول في معرض حديثها عن ميخائيل جورباتشوف: «لم يكن يعرف حتى إعداد وجبة نقانق غير أنه عرف كيف يحقق الحرية».