دراسات
ألمانيا تتربع على عرش الاقتصاد الأوروبي رغم أزمة «اليورو»
تاريخ النشر : السبت ١٨ فبراير ٢٠١٢
يمكن القول إن ألمانيا اليوم بقاعدتها الصناعية الكبيرة وتفوق صادراتها، هي «أمريكا أمس»، فهي باتت تشكل قوة اقتصادية عملاقة مختلفة عن أي من جيرانها الأوروبيين الذين ينازعون مشكلاتهم المالية والاقتصادية الكثيرة. وباعتبارها رابع أكبر اقتصاد عالمي، فقد نمت وازدهرت بفضل مبادئ يبدو أن الولايات المتحدة قد تخلت عنها تدريجيا. ذلك أن ألمانيا وضعت منذ سنوات ميزانية ضيقة نسبيا وتبنت إصلاحات عدة مثل رفع سن التقاعد، لم تبدأ بلدان أخرى من منطقة «اليورو» اتخاذها سوى الآن مرغمة، وقلة قليلة من البلدان تستطيع مضاهاة قدراتها بخصوص إنتاج وتصدير الآلات والمعدات، أو من حيث بناها التحتية الخاصة بالبحث والتدرب على المهن والتمويل الداعم للصناعة.
ولا يمكن لأحد ان يشكك في ان الصناعة الألمانية قوية جدا، فالالمان يعملون بجد، ومن المعروف عنهم انهم شعب نشيط يتفادى الكسل. لذلك ربما، فإن الاقتصاد الألماني هو الأقوى في أوروبا.
«أورينت برس» أعدت التقرير التالي:
تعتبر ألمانيا الدولة الكبيرة الوحيدة في منطقة «اليورو» التي نجت من عمليات خفض التصنيف الائتماني التي طالت جيرانها، ومازالت البلاد تقود اقتصاد القارة برمتها وتتخذ ابرز القرارات لجهة تقديم المساعدات والمعونات للاقتصادات المتعثرة. غير أن ألمانيا لديها نصيبها من التحديات، فالتفاوت في الدخل، وإن كان أقل حدة مما هو موجود في الولايات المتحدة، آخذ في الارتفاع. كما أن معظم العمال، لم يروا ارتفاعاً في الأجور خلال السنوات القليلة الماضية، وعدد سكان البلاد آخذ في الانخفاض، لكن هذه المسائل لم تعق نموها الاقتصادي اقله حتى اليوم.
حافة الهاوية
واليوم، وفي وقت توجد في أوروبا دول على حافة الهاوية، تواجه ألمانيا سوقاً آخذة في التراجع بالنسبة إلى صادراتها، واحتمال الاضطرار إلى توفير عشرات المليارات الإضافية من العملة الاوروبية الموحدة من أجل المساهمة في إنقاذ اقتصاد جيرانها الذين يواجهون مشاكل مالية في منطقة «اليورو» وهو امر بلا شك سيؤثر في اقتصادها.
ومع ذلك، فإن الشركات الألمانية وثقة المستهلكين بها بخير عموماً، حيث انخفض معدل البطالة في البلاد بموجب الاحصاءات الاخيرة إلى أدنى مستوى له منذ عقدين إذ بلغ 6,8 في المائة، وهو معدل أدنى مقارنة بمعظم أوروبا والولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن إنتاجها الصناعي أخذ يفقد وهجه نسبيا، فإن ألمانيا عرفت حتى الآن كيف تحافظ على فائض تجاري مبهر مع بقية دول العالم، بما في ذلك الصين.
والواقع أن الاقتصاد الألماني يبدو شبيهاً باقتصاد الولايات المتحدة قبل بضعة عقود، ففي عام 1975، كانت الصناعة تمثل نحو 20 في المائة من الإنتاج الاقتصادي للولايات المتحدة، أو الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة نفسها تقريباً التي تحققها ألمانيا اليوم. ولكن منذ ذلك الحين، تراجع نصيب الصناعة الأمريكية من الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 12 في المائة.
مقارنة مستمرة
وفي عام 1975، كان عجز الميزانية الأمريكية يبلغ 1 في المائة من الاقتصاد، على غرار ألمانيا اليوم. غير أنه في العام الماضي بلغ العجز الأمريكي نحو 10 في المائة، وفي السبعينيات وبداية الثمانينيات، كان متوسط العائلات الأمريكية يوفر نحو 10 في المائة من مدخوله، وهي النسبة نفسها تقريباً المسجلة اليوم في ألمانيا. أما اليوم، فإن معدل الادخار الأمريكي تراجع إلى أقل من ذلك بكثير.
ألمانيا، وعلى غرار الصين، تروج لصادراتها بشراسة وتتردد في زيادة الإنفاق الداخلي، وهو ما يحبط واشنطن التي تريد بيع مزيد من السلع الأمريكية في الخارج. وقد يكون ذلك شيئاً جيداً بالنسبة الى ألمانيا، ولكن العديد من المنتقدين يقولون إن قلة الاستهلاك في البلاد تتسبب في اختلالات غير صحية بالنسبة إلى الاقتصادات الإقليمية والعالمية، وذلك على غرار إفراط أمريكا في الاستهلاك والاقتراض. بيد أن الممارسات الاقتصادية لألمانيا ونمط عيشها لديهما علاقة وثيقة بثقافة تخشى الديون والتضخم وتحتاط في كل الاحوال، فمن عدة نواح، مثلاً، تحجم البلاد عن التشجيع على الثقافة الاستهلاكية وهناك قدرة لدى الالمان على ضبط انفسهم امام مغريات القروض والافراط في الاستهلاك. ذلك أنه تندر في شوارعها اللوحات الإعلانية المروجة للسلع الاستهلاكية كالتي تنتشر بكثرة في الولايات المتحدة، والضرائب على السلع والخدمات مرتفعة في ألمانيا، والعديد من المتاجر والمطاعم فيها تغلق أبوابها أيام الأحد.
بل إن العديد من المتاجر الصغيرة لا تقبل بطاقات الائتمان، بينما من الملاحظ أن المستهلكين في بلدان أخرى يستعملون بطاقاتهم الائتمانية حتى من أجل أصغر المشتريات ففي فرنسا يمكنك أن تشتري رغيفاً باستعمال بطاقة الائتمان. أما في ألمانيا، فإن الناس لا يحبونها ولا يتعاملون بها كثيراً.
ازدهار في القطاعات
لا يمكن التشكيك في سرعة نمو الاقتصاد الألماني خصوصا ان الألمان يركزون فيما يجيدونه، وهو الهندسة الانتاجية، والتقنية المرتفعة المستوى، والابتكار من خلال الأبحاث والتنمية، وإنتاج السلع الممتازة التي صنعت لتعيش أجلا طويلا. من هنا عادت ألمانيا قبل سنوات إلى مكانتها الأولى على مسرح الاقتصاد العالمي، وهناك طلب عالمي مرتفع على الآلات الألمانية وتمثل الهندسة الميكانيكية 138 مليار يورو من الاقتصاد الألماني، ويعمل 850 ألف شخص في هذا القطاع، مما يعطي ألمانيا المركز الأول في تصدير الماكينات والآلات والمصانع على مستوى العالم.
كما أن ألمانيا هي الأولى عالميا في ثلث أفرع الصناعة الهندسية في العالم وأنظمة الطاقة والمحركات، وتسيطر ألمانيا على ربع السوق العالمية في هذه المجالات فضلا عن أن عوائد قطاع الهندسة الالكترونية تبلغ 152 مليار يورو سنويا، وقطاع الالكترونيات الدقيقة من أسرع القطاعات نموا في الصناعة الألمانية، وتكتسب منطقة الشرق الأوسط السريعة النمو أهمية متزايدة كسوق للمبيعات في السنوات الأخيرة.
ولا داعي للقول ان صناعة السيارات الألمانية تزدهر بسبب جودتها، وتبلغ عوائدها ربع تريليون يورو سنويا، ويعمل بها 770 ألف شخص. وتنتج هذه الصناعة سيارات متقدمة أمثال أودي ومرسيدس وبي ام دبليو، وبذلك تحتل ألمانيا مكانة بارزة في صناعة السيارات العالمية. ولا منافس للسيارات الألمانية في قطاع السيارات الفاخرة القوية، اذ تنتج ألمانيا نحو 6 ملايين سيارة سنويا على أرضها، فضلا عن 8,4 ملايين سيارة في أماكن أخرى من العالم. وهنا يأتي الشرق الأوسط مرة أخرى، وخاصة دول الخليج، ليصبح منطقة متزايدة الأهمية لصادرات صناعة السيارات الألمانية.
الكيمياء والصحة
على صعيد آخر، يعمل في صناعة الكيماويات الألمانية 440 ألف شخص وتحتل ألمانيا المكانة الأولى عالميا في تصدير الكيماويات ويعترف بها العالم بأنها الأولى ليست فقط في الإنتاج بل في الأبحاث أيضا. وهناك 80 جامعة في ألمانيا متخصصة في أبحاث الكيماويات والكيمياء العضوية، ويوجد أيضاً عشرات من معاهد البحث الكيميائي، ويبلغ الإنفاق الحكومي والخاص على الأبحاث والتطوير الكيماوي 7 مليارات يورو بحسب أرقام العام الماضي فقط. وزاد الاستثمار الأجنبي في هذا المجال ثلاثة أضعاف ليصل إلى 25 مليار يورو خلال 15 السنة الماضية.
أما الرعاية الصحية في ألمانيا فهي قطاع صناعي نموذجي آخر في ألمانيا، وقد خصصت الحكومة الألمانية 800 مليون يورو للأبحاث والتطوير في التقنيات الطبية. يضاف إلى ذلك عدد لا حصر له من المراكز الأكاديمية الممتازة في الدراسات الطبية في أنحاء البلاد، ولهذا يتضح سبب تفوق ألمانيا عالميا في المنافسة وانتظار الحلول الطبية وتقنياتها.
وقد أدى ارتفاع عدد المسنين بين السكان في العقود الأخيرة إلى تحول نجاح هذه الصناعة إلى ضرورة، وتتمتع صناعة الرعاية الطبية الألمانية بسمعة عالمية ممتازة، وكذلك في الشرق الأوسط.