العراق: تهافت الطبقة السياسية.. وتحديات إزالة آثار الإحتلال
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢١ فبراير ٢٠١٢
بقلم: د.عمر الكبيسي
أكثر ما يثير الدهشة والاستغراب عندي هم الدعاة بالأمس لحمل السلاح بوجه المحتلين والغزاة وجيوشهم المدججة وهم يدركون حجم تفوق الغزاة بالعدد والعدة ويفخرون بما حققته المقاومة من انجازات وانتصارات وبدورها الفاعل في تحقيق انسحاب الهزيمة والمواجهة العسكرية، لكنهم اليوم بعد تحقيق هذا الانجاز في مسيرة التحرير الشامل والكامل، يستبقون الزمن ليتخذوا من واقعة هذا الانسحاب مبررا لإشهار أو تلبية نداءات المصالحة الوطنية الخادعة والمشاركة في العملية السياسية المتهاوية، ولا يترددون في أن يشهروا ويتبنوا مشروع الفيدرالية ويعتبرونه حلا اضطراريا لتفادي شرور سياسة سلطة مركزية منصبة وحكومة ناقصة وإرهاصات ميليشيات وقوات الجيش البديل لأنها تستهدف مكون أهل السنة خوفا على هذا المكون من الانقراض والتهميش!
قنوات فضائية وتجمعات وتشكيلات ودعاة وكتب وأقراص حاسوبية ومقالات وطروحات وأصوات نواب واجتماعات مجالس محافظات ومظاهرات وتشكيلات جديدة تنشط للمطالبة بالأقاليم والجميع يبررونها إما بالنصوص الدستورية التي رفضتها الجماهير بحملة الاستفتاء وإما بحماية المكون، كل هذا يتم لتمرير حل اضطراري لمحافظات يسودها مكون سواء هذا او ذاك ترى ما هو الحل للعاصمة بغداد وللمحافظات المختلطة؟
وفي الوقت نفسه تنشط وتبرز وجوه جديدة وتشكيلات سياسية طائفية تطرح نفسها لدخول العملية السياسية من خلال رفضها الأقاليم وتبني مواقف المالكي الأخيرة والمعلنة برفضه الترويج للأقاليم كي تطرح نفسها انها بديلة للوجوه السياسية المشاركة في الحكومة ضمن إطار تحقيق المصالحة الوطنية!
كل هذه الطروحات لا يغفلها الشعب المنكوب ولها مبرراتها الدفين ودوافعها الذاتية وجميعها غثاء وزبد يطفو ويختفي، لأنها لا تلامس الواقع ولا تصب في مصالح الشعب وهؤلاء الراكضون الجدد لن يكونوا أفضل من سابقيهم أداء أو نزاهة أو شعبية، والحال هو مجرد تبادل ادوار في مسلسل الأكاذيب ابتداءً من مفاهيم المحاصصة ثم الشراكة ثم الأغلبية السياسية ثم اكذوبة وثيقة الإصلاح ومجلس السياسات ومبادرة اربيل وانتهاء بالمؤتمر الوطني المنشود بين شركاء السلطة.
وفيما تستمد السلطة الحاكمة شرعيتها المزعومة من خلال دستور كتب في ظل احتلال أمريكي اعترف المتسلطون أنفسهم بثغراته القاتلة لكنهم مقيدون بنصوصه التي ثبت عدم قدرتهم على تغييرها لاحقا، وانتخابات اعترف أقطابها بزيفها قبل غيرهم، وحكومة شراكة مفروضة مكشوف دعمها بتوافق أمريكي وإقليمي، وتتفاقم أزمات هذه السلطة وصراعات أقطابها بما ينذر بتهافتها وانهيارها، فيما يدفع العراقيون الثمن من خلال عنف متزايد وتفجيرات وكوارث بشرية قاتلة وفساد مستشرٍ وهجرات جماعية وبنية تحتية منهارة لا قيمة فيها لحياة البشر في دولة لا تقل واردات تصدير النفط فيها عن مائة مليار دولار سنويا.
تستمد المقاومة الوطنية شرعية وجودها استراتيجيا من فكر يقاوم الاحتلال ومخلفاته وتشريعاته ومشاريع التقسيم والطائفية والاجتثاث والتهميش، ولا يمكن بأي حال من الأحوال خروج المقاومين والمناهضين عن هذه الثوابت أو بعضها مما يعني الخروج منها والانقلاب عليها. والجمع بين المتناقضات في سلة واحدة حالة افتراض واهم وزعم كاذب ودس مفضوح للسم بالعسل وادعاءات السلطة بتبنيها مشروع مصالحة وطنية خدعة بانت فضيحتها بما آلت إليه حال قيادات هذه الشراكة من مهاترات واختراقات وفضائح، والمقاومة التي أرغمت جيوشا مدججة وكاسرة على الانسحاب، لا يمكن أن تتبنى خطاب الأقاليم والتقسيم بمبرر الاضطرار إلى حل بديل أمام تصرفات وسلوكات سلطة منهارة وصولات جيش بديل وميليشيات لطالما وصمت بالضعف ونقص التسليح والكفاءة.
والمقاومون الصامدون ليسوا عطاشى لإلقاء السلاح بمجرد انسحاب عسكري نوعي ليكونوا طعما للمزيد من فعل عصابات الشركات والمخابرات والميليشيات المحلية والإقليمية والأجنبية.
المقاومون الصامدون ليس لديهم تعطش للمشاركة في عملية سياسية خرقاء فاشلة ومنهارة بعد أن قطفوا أول ثمار ما أنجزوه من خلال هزيمة نوعية بانسحاب عسكري غير مخطط له معروفة أسبابه ومكشوفة، لأنهم يدركون جيدا ان المهمة القادمة بعد الانسحاب تتمركز في كيفية الخلاص من مخلفات هذه العملية السياسية التي ابتدعها الاحتلال على أسس واهمة، ولن يتم الخلاص من الاحتلال بشكل كامل الا من خلال التأسيس لعملية سياسية وطنية ترتكز على دستور جامع وانتخابات نزيهة ومسخ الطائفية التي يعتبرها البعض اليوم هي الهوية البديلة والقضية المتحكمة.
واأسفاه! المقاومون الصامدون قاوموا الاحتلال لأن الاحتلال دمر وقتل وافسد ومزق ولأن الاحتلال كتب دستورا فاسدا «تشظويا» وأسس سلطة محاصصة طائفية وعرقية وفتح الحدود وغض الطرف عن احتلالات لاتزال تتحكم في مصير العباد والبلاد ومنها ما هو أشد من الاحتلال العسكري خطورة ومرارة وهو حجم النفوذ الإيراني والإقليمي والصهيوني المتوغل في الساحة العراقية.
المقاومون في العراق لم يختاروا طريقهم حبا بالسلاح وتعطشا للدماء، إنهم يقاومون بجهاد الدفاع مضطرين إلى القيام بواجب شرعي ووطني وهو حل اختارته كل الشعوب المحتلة عنوة أو طمعا أو عدوانا من ضمنها شعوب ليست مكلفة برسالة سماوية أو شرعية بواجب المقاومة والجهاد (كما الحال عند العرب والمسلمين)، لقد قاتل اليابانيون والفيتناميون أعداءهم بدوافع وطنية بحتة وقدموا تضحيات هائلة أصبحت مضرب الأمثال بالبطولة لكل الشعوب المتحررة والتواقة للتحرير وكان تاج إزالة آثار خسارة الألمان لحرب عالمية شنها قائدهم هتلر مع حلفائه بدوافع هيمنة وتوسع هو تحقيق الوحدة الألمانية بين ألمانتين خلفتهما تلك الحرب ذاتها ولم تكن إزالة الجدار وتحقيق الوحدة بلا ثمن في الأرواح والأموال استمرت طوال حالة السلم بعد توقف الحرب عقودا من الزمن.
المقاومة المسلحة حل اضطراري حين لا يرعوي الغزاة والمعتدون عن غيهم وعدوانهم الا من خلالها وهذا هو شأن مقاومتنا العراقية الباسلة، والمناهضة والممانعة للاحتلال فعل سياسي يستهدف إنجاز التحرير الشامل.
الفيدرالية في العراق وفي ظل ظروفه الراهنة ووجود النفوذ الأجنبي المتعدد فيه الظاهر منه والمستتر وفي ظل دستور كتب في وجود المحتلين وإشرافهم يقر بها ويشرعنها، لا يمكن أن تكون حلا جذريا لشعب فاقد السيادة والحصانة بقدر ما هي مشروع انبطاحي احتلالي تقسيمي دموي يحسبه المقاومون جزءا من مشروع الاحتلال وأهدافه ولا يمكن ان تكون حلا وقتيا اضطراريا يعالج إجراءات سلطة مركزية متفردة بالقرار بقدر ما هي مشروع دموي يهمش دور المقاومة الباسلة ويجرف مسيرتها وأهدافها ويستهدف وحدة العراق وتقسيمه بشكل دائم لا يمكن العودة عنه لو انه تحقق، وخيار الفيدرالية إن كان فيه إصلاح إداري وسياسي فيجب ان يكون خيارا شعبيا من موقع قوة وبحبوحة وأمن وأمان لا من موقع ضعف واستسلام وعنف وانقسام، المناداة به في ظل الاحتلال وحالة التشظي والانقسام وفقدان الأمن والفساد التي تطفو على واقع العراق، تعني أنها مشروع تقسيم ونزاع وصراع وأطماع وضعف ودمار.
كيف يمكن أن نهضم تنظيرا أو تبريرا سواءً كان شرعيا أو وطنيا لمن يدعون انهم مقاومون ويروجون لمشروع الفيدرالية والأقاليم في دولة كالعراق لا يتردد الغزاة له والمحتلون فيه أن يعلنوا جهارا نهارا ان نفوذهم فيه باق وفاعل حتى بعد أن انسحبوا منه عسكريا؟ ويصح القول ذاته حتى لمن لا يعترف بوجود عسكري له على أرضه من جيرانه ونفوذ فيه بوسائل مستترة، وأي سيادة هذه والعراق لايزال خاضعا لبنود الفصل السابع من فصول الهيمنة الدولية من خلال هيئة الأمم التي تتناقض بشكل واضح مع ما يدعيه المتسلطون فيه بأنه يتمتع بكامل السيادة والإرادة في حين انه لا يتمتع بقدرة الهيمنة على موارده وأمواله؟
إن التناقض بين ثوابت المقاومة ومشاريع الفدرلة والتقسيم والأقاليم في ظروف العراق بعد احتلاله واضح كوضوح التناقض بين من ينسب إلى نفسه صفة المقاوم والمناهض للاحتلال ويوهم نفسه بتبرير المشاركة في عملية سياسية متهاوية او تسلم سلطة أو منصب فيها من أجل مصالح ومكاسب ذاتية او شخصية في ظل سلطة «بوليسية» وأمنية ودكتاتورية فردية واضحة في خطابات تهديد وتدخل ونفوذ إقليمي تطلق وتمارس بلا تردد وبشكل متواتر بالتزامن مع تحقيق إنجاز الانسحاب العسكري الأمريكي، الذي أسفر عن حالة انهيار وخيبة الفشل السياسي وتفاقم الصراع بين شركاء السلطة الحاليين، يتم اليوم شراء ذمم أصحاب المصالح والمنافع، وتظهر تشكيلات وتجمعات لاستقطاب شراكات جديدة واهمة لإعادة تصنيع السلطة بوجوه جديدة مصطنعة لا قواعد لها ولا قيادات يتم اعدادها كلاعبين احتياط في سباق غير متوازن سمته الفشل والإحباط، وفي ظل غياب الإجماع الوطني لإحداث التغيير السياسي الجذري لمخلفات الاحتلال وتشريعاته وغياب الحلول الجذرية لنهوض مشروع وطني اصلاحي جامع بديل، ستبقى المقاومة فاعلة على ثوابت التحرير تستهدف المحتلين ومشاريعهم وسيبقى الحراك الشعبي والفعل الجماهيري السلمي تعبيرا ناطقا ينشد الإصلاح والتغيير، فيما تحسب كل خطابات تهافت الأقزام لنزع سلاح المقاومة وادراجها في عملية سياسية منهارة ومصالحة وطنية خادعة ودعوات إقامة أقاليم بمبررات نصوص دستور الاحتلال الخائب، مشاريع فاشلة تخدم الاحتلال وتصب في تحقيق أهدافه اللاحقة وتتقاطع وتتعارض مع فكر المقاومة وأهدافها، ولعل أخطر هذه المشاريع وبالاً على الأمة هو الانسياق خلف الخطاب الطائفي المقيت ومحاولات تمرير دعوات التهافت هذه تحت غطائه، وهذا مطب قاتل لشعبنا ووطنيتنا لا نهاية له ولا آخر، نرجو الله أن ينجي شعبنا من آفاته، (وداوني بالتي كانت هي الداء).
* كاتب وسياسي عراقي
.