مغامرة حكومة «الإخوان» في مصر
تاريخ النشر : الثلاثاء ٢١ فبراير ٢٠١٢
فهمي هويدي
أفهم أن يطالب البعض بتكليف الإخوان بتشكيل الحكومة في مصر، لكني أستغرب أن يأخذ الإخوان الكلام على محمل الجد، فيشمرون عن السواعد ويشاورون ويرشحون ويرتبون. ثم يقول قائلهم بمنتهى الحماسة إنهم ليسوا جاهزين من اليوم فقط، ولكنهم جاهزون من أمس أيضا.
(1)
يثير انتباهنا لأول وهلة، أن بين من يلحون في هذه الدعوة نفر من الكارهين والشامتين والبصاصين الذين كانوا أبواق جهاز أمن الدولة في ظل النظام السابق. وهي ملاحظة أسجلها بسرعة ولا أدعو إلى الوقوف عندها طويلا، ذلك إنني مستعد لافتراض حسن النية لدى الأغلبية، وتفهم الحجة المنطقية التي تقول إن الحزب الحائز على الأغلبية في البرلمان يتعين عليه أن يشكل الحكومة. علما بأنني لست مشغولا كثيرا بما إذا كان يحق لهم تشكيل الحكومة أم لا، لكن سؤالي ينصب على ملاءمة وجدوى الإقدام على هذه الخطوة في الظروف الراهنة لمصر. وإجابتي السريعة أنني أعتقد أن ذلك ليس في مصلحة البلد ولا في مصلحة الإخوان. أما كيف ولماذا، فذلك ما سأحاول شرحه هذه المرة.
(2)
أرجو أن يكون واضحا في الأذهان ابتداء أنني أتحدث عن حالة مصر ولا أطلق حكما عاما، لاقتناعي بأن مصر لها خصوصية لا تتوافر لأقطار أخرى كثيرة. إذ هي بلد مركزي يعد مفتاح العالم العربي وعاصمته، كما قال بحق الدكتور جمال حمدان، إذا عزّت استعادت الأمة عزتها وكبرياءها، وإذا هزمت انكسرت الأمة وذلت. ولا أعرف إن كانت هذه المقولة تحتاج إلى برهان أم لا، لكنك إذا تطلعت إلى حال الأمة بعدما وقعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل وإذا رصدت أصداء هذه السقطة في أرجاء العالم العربي، فلن تحتاج إلى مزيد برهان.
بكلام آخر فإن خصوصية الموقع أضفت على مصر أهمية أغرت القوى الكبرى على مدى التاريخ بأن تتطلع إليها وتطمع فيها، حتى تحدث الدكتور حمدان في مؤلفه «شخصية مصر» عن جناية الموقع على هذا البلد. ضاعف من أهمية مصر في الاستراتيجيات العالمية أمران، الأول معاهدة السلام مع إسرائيل، والثاني أنها تتصدر عالما عربيا يختزن النفط الذي تعتمد عليه الصناعة الغربية، الأمر الذي جعل ذلك العالم وعاء مهما للمصالح الحيوية الغربية.
لأن الأمر كذلك، ففي النظر الغربي ثمة «سقف» لأي حراك في مصر والعالم العربي، حيث مسموح لأي دولة أن تفعل ما تشاء مادام ذلك لا يمس من قريب أو بعيد السلام مع إسرائيل أو موضوع النفط الذي بات يوصف بأنه مصلحة غربية عليا. وإذا صح ذلك التحليل فإن الدوائر الغربية والإسرائيلية تتوجس من أمرين في العالم العربي أولهما الاستقلال الوطني وثانيهما الديمقراطية الحقيقية. إذ من شأن تحقق أي منهما أو كليهما أن يؤدي في نهاية المطاف إلى اشتباك مع المصالح الغربية والطموحات الإسرائيلية. لسبب جوهري هو أن استمرار تلك المصالح والطموحات يفترض حالة من «الخضوع» للسياسة الغربية، الأمر الذي لابد أن يصطدم مع استحقاقات الاستقلال أو مقتضيات الممارسة الديمقراطية. لذلك فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن ترحيب واشنطن أو غيرها من الدول المعنية بالربيع العربي مؤقت ومشروط بألا تتعارض ثماره مع ذلك السقف المفروض.
(3)
إذا يممت وجهك شطر الداخل الذي هو الأهم والأساس فسوف تجد أن الأضواء الحمراء تخطف البصر وتفوق الحصر، ذلك أن مصر التي دمرها وشوه مؤسساتها النظام السابق تحتاج إلى بناء جديد. وذلك هم تنوء بحمله الجبال. إذ لا تحتاج مصر إلى مجرد إصلاح سياسي يتحقق بإصدار دستور جديد أو إجراء انتخابات برلمانية، وإنما المطلوب والمأمول أن تستعيد مصر عافيتها وتتجاوز حالة التقزيم والإعاقة التي فرضت عليها وأخرجتها من مجري التاريخ حتى أصبحت مجرد حقيقة جغرافية. صحيح أن تقدما كبيرا حدث بعد الثورة في مجال الحريات العامة، لكن قائمة المهام المطلوب إنجازها طويلة، وحلم النهضة والعدل الاجتماعي يستدعي ملفات أخرى كثيرة تشمل التعليم والصحة والإسكان وغير ذلك من مجالات الخدمات، إلى جانب ملفات الإنتاج التي يطل منها كم مقلق من الإشارات الحمراء. ذلك أن ثمة شبه إجماع بين الخبراء على أن الوضع الاقتصادي في مصر سيكون في أسوأ حالاته خلال السنة المقبلة على الأقل. الأمر الذي لا يتفاءل هؤلاء بتأثيراته وتداعياته الاجتماعية وربما السياسية أيضا. ولاتزال ترن في أذني مقولة رددها أمامي واحد من أولئك الخبراء. ادعى فيها أن إدارة شئون مصر في الفترة المقبلة ستكون أقرب إلى العملية الانتحارية، ما لم يتم التصدي للمسئولية بأكبر قدر من المهارة وأوسع إطار للمشاركة من جانب الطبقة السياسية والقوى الحية في المجتمع.
(4)
إن التحديات الجسام التي تواجه مصر الثورة في الداخل والخارج لا تحتمل التبسيط أو المغامرة. وهي أكبر من الإخوان ومن أي فصيل بذاته. وأرجو ألا يقارن أحد الوضع في مصر بنظيره في تركيا أو ماليزيا أو كوريا الجنوبية أو سنغافورة لثلاثة أسباب. الأول ما ذكرته توا من أن مصر لها وزن مختلف في الحسابات الاستراتيجية الدولية. الثاني أن وجود حدود مشتركة ومعاهدة سلام بين مصر وإسرائيل له تبعاته التي لا تتوافر لأي بلد آخر. الثالث أن ما أنجزته تلك الدول هو حصيلة تراكم تواصل عبر فترة تراوحت بين 30 و40 سنة. وحالم أو ساذج من يتصور أنه يمكن أن يستنسخ ما بلغوه من إنجاز من خلال «حرق المراحل» ودون أن يتوافر ذلك التراكم.
إننا بحاجة إلى حكومة وحدة وطنية وليس حكومة اخوانية. ولا يقولن أحد إن الأغلبية البرلمانية ينبغي أن تتحمل المسئولية مادامت قد عرضت نفسها على الناس وتم التصويت لصالحها. أولا لأن هذه الأغلبية تمارس المسئولية من خلال مجلس الشعب الذي يرأسه أحد القياديين في الإخوان. ثانيا لأن الفوز بالأغلبية لا يعني بالضرورة أن يتحمل الحزب الفائز كامل المسئولية عن إدارة البلد. وقد وجدنا في تجربة تونس أن حزب الأغلبية تحمل مسئولية الحكومة في حين كانت رئاسة البرلمان (الجمعية التأسيسية) من حصة حزب آخر، وتولي رئاسة الدولة رئيس حزب ثالث. ثالثا فإنني لا أقول بابتعاد الإخوان تماما عن الحكومة، ولكني أدعو إلى أن يتولى تشكيلها أحد الشخصيات الوطنية الموثوق فيها، على أن تشترك فيها مختلف القوى الوطنية والإخوان والسلفيون من بينهم، ليتحقق بذلك أوسع قدر من التوافق الشعبي.
(5)
قلت قبل قليل إن تشكيل الإخوان للحكومة في الظروف الراهنة ليس في مصلحة البلد، كما أنه ليس في مصلحة الإخوان أو الحركة الإسلامية عموما. هو ليس في مصلحة البلد لأن دولا عدة غربية بل عربية أيضا سوف تحجم عن تقديم أي معونات أو استثمارات لمصر، ولا أستبعد أن يتكرر مع حكومة الإخوان في مصر ما حدث مع حكومة حماس في غزة. وليس سرا أن من مصلحة تلك الدول إثبات عجز تلك الحكومة وفشلها في مهمتها. من ناحية أخرى، فإن إدارة دولة بحجم وأهمية مصر - ناهيك عن أن يستهدف ذلك استعادة مكانتها في مجرى التاريخ - تتطلب خبرات لا أتصور أنها متوافرة لدى حركة الإخوان. والسبب في ذلك أن الأنظمة السابقة حرصت على إقصاء عناصرها من مختلف واجهات العمل الوطني. ولست أشك في أن لديهم من الكفاءات من يستطيع أن يشارك في الحكومة، لكن شكي كبير في قدرتهم على تشكيل الحكومة والاستئثار برئاستها وبأغلب وزاراتها، تبعا لنسبتهم في البرلمان.
من ناحية ثالثة، فإنني أخشى أن يتكرر مع حكومة الإخوان ما حدث في تركيا مع نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه حين رأس الحكومة أول مرة عام .1996 ذلك أن الرجل لكي يستمر في منصبه فإنه اضطر لتوقيع أسوأ الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل. الأمر الذي أضر بالبلد كما أضر بسمعة شخصه وحزبه.
حين قلت إن تشكيل الحكومة ضار بالإخوان في أنفسهم فقد كان في ذهني أنهم إذا فعلوها فقد يضطرون إلى الإقدام على تنازلات تهدد رصيدهم التاريخي، وقد تهدد شرعيتهم باعتبارهم فصيلا من الحركة الوطنية المصرية. وستكون العلاقة مع إسرائيل مثلا تحديا واختبارا لهم من اليوم الأول. إذا سلموا وامتثلوا فقد خسروا أنفسهم وشعبيتهم، وإذا تمنعوا أو رفضوا فقد خسروا علاقتهم مع الأمريكان ومع دول الاعتدال العربي. وقد قال لى أحد المخضرمين إنه لن يستبعد في أول أسبوع لحكومة الإخوان أن تختبرها إسرائيل من خلال شن هجوم على غزة، لكي تتعرف على نواياها إزاءها. ليس سرا أن بعض الذين يدعون إلى تشكيل حكومة الإخوان يريدون توريطها في كمين منصوب لهم. ذلك أن حرج الظرف وصعوبة الموقف الاقتصادي تحديدا، إضافة إلى العقبات والضغوط التي سبقت الإشارة إليها تجعل المراهنة أكبر على إفشال مهمة الحكومة، بما يراد له أن يؤدي إلى قطع الطريق على أي دور للحركة الإسلامية في السلطة لعدة عقود مقبلة، ليس في مصر وحدها ولكن أيضا في العالم العربي بأسره. وليس سرا أيضا أن ثمة أطرافا داخلية وعربية ودولية يهمها للغاية وقف ذلك المد الذي أوصل الإسلاميين إلى مواقع السلطة ودوائر صناعة القرار.
هذا الذي أقوله ليس مجرد استنتاج، ولكنه يعتمد على معلومات محددة، خلاصتها أنه يجري في مصر هذه الأيام الإعداد لتشكيل حزب جديد يكون بديلا مرشحا لتسلم السلطة بعد الفشل المرتجى لحكومة الإخوان. وهذا الحزب يسوقه الآن ويوزع استمارات عضويته بعض ذوي الصلة بالنظام السابق، وهناك كلام مثار حول دعم خارجي له، أسهمت فيه بعض الدول العربية.
أكرر: ما أقوله معلومات وليس استنتاجات.