الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


ما هو أخطر من مولوتوف المدارس

تاريخ النشر : الخميس ٢٣ فبراير ٢٠١٢



لم أكن أتوقع أن يأتي علي زمن أكون فيه على موعد شبه يومي مع أخبار غاية في السوء كهذه الأخبار التي تتعلق بـاستهداف أقدس الأماكن في بلدي وهي «المدارس»، باعتداءات تتصاعد وتيرتها كأن الأمر تمهيد ليصير خبرا عاديا مألوفا في صحافة البحرين، وهذا مكمن الخطورة الحقيقية، يحدث ذلك من دون أن يرتفع صوت من تلك الأصوات التي تصم الآذان كل يوم لأي سبب وبلا سبب في كل وسائل الإعلام في الداخل والخارج، فأخبار الاعتداءات على المدارس تنقص العمر وتنزل على رأسي كالمطارق قبل غيري بحكم وظيفتي، وربما تؤثر فيّ أزيد من الكثيرين بحكم نشأتي في بيت علم يكاد يكون ملاصقا لمدرسة عريقة تعد شاهدا تاريخيا على كون البحرين حاضرة علمية على مستوى المنطقة، هي مدرسة الشيخ داود بن شافيز رحمه الله (المتوفى سنة 1602م) التي تحولت فيما بعد إلى مسجد مازال يعرف في مدينة جدحفص بـ «المدرسة»، كما تحولت مدارس أخرى في هذه البلدة العريقة إلى مساجد، ومنها مدارس آل الصادقي التي تنتصب شواهد على العراقة والاهتمام بالعلم وتقدير العلماء، وتصنع بيئة محبة للعلم مشجعة عليه تمتد من الماضي إلى الحاضر لتذكرنا بما صنعه الأجداد وما كانوا عليه.
لقد حدثتني جدتي لأبي رحمها الله عن مدرسة الشيخ داود تلك «المدرسة المسجد»، وكيف كان جدي القاضي الشيخ محمد علي المدني رحمه الله (1892م ؟ 1945م) يحتضن طلبة العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية في تلك «المدرسة المسجد»، وكم سمعت من أعيان جدحفص عن العلماء الأجلاء الذين أسسوا المدرسة قبل أكثر من أربعمائة عام (ومازالت قبورهم بجوارها إلى يومنا هذا) ولهم رسائل ومناظرات علمية راقية مع علماء قريتي المصلى والبلاد القديم وغيرهما، وهكذا امتزج مفهوم المدرسة والمسجد في ذهني منذ طفولتي الأولى مشدودا برباط ديني وعاطفي وثيق.
وكم هي الصدمة قاسية علينا نحن أبناء هذه البيئة وأصحاب هذا التكوين العاطفي والنفسي حين تم استهداف مدارس البحرين الحكومية في معظم المناطق ابتداء من عام 2006 ليصل عدد الاعتداءات من ذلك التاريخ إلى عام 2010 إلى (36) اعتداء على المنشآت التعليمية وهي دور للعلم والتنوير والتنشئة والتدريب والتأهيل حث الدين الحنيف على إنشائها ورعايتها وتطويرها، وحفظتها القوانين والأعراف عند كل الشعوب والأمم، ووصل الأمر إلى ذروته خلال شهري فبراير ومارس من العام الماضي 2011 حين ترافقت الاعتداءات مع المحاولات البائسة اليائسة لإيقاف مسيرة التعليم في البحرين والإيقاع بها في شرك التسييس والفرقة وتدمير ما بنته الأجيال المتعاقبة من أبناء البحرين ومعهم الإخوة العرب من قيم المحبة والإخاء والعيش المشترك، وهي مسيرة لم تنقطع ولم تتوقف حتى في أحلك الظروف السياسية والأمنية التي عاشتها البحرين في الحقب التاريخية المختلفة، فقد كانت دورا للمحبة والتعايش بين طوائف البلد بمنأى عن أي أحداث سياسية يفترض أن يتفرغ لمعالجتها الكبار.
وقد كانت رهيبة ومخزية محاولات تعطيل السير الطبيعي للمدارس والجامعات وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية بين الطلبة الذين تم استغلالهم سياسيا، وحاولت الأحزاب أن تلعب لعبتها في عقولهم ونفوسهم من أجل تحقيق أغراض ضيقة الأفق، حتى سمعنا شعارات يرددها أطفال في الصف الأول الابتدائي أخجل منها ويجب أن يخجل منها كل ذي ضمير حي وكل ذي ذوق سليم وكل من يملك «سنع» أهل البحرين، وتم تحفيظها لأطفال صغار لا يفقهون ما يقولون، ليرددوها في وجوه اقرانهم الصغار الذين ولدوا وترعرعوا ودرسوا معهم في هذه البلاد، إنه منتهى الانحطاط الأخلاقي والقيمي ذاك الذي أوقعوا فيه أطفالنا، وهو لعمري تدمير أخطر من حرائق المولوتوف التي توجه اليوم إلى المدارس في نوع من السفه غير المعهود.
وخلال الشهرين الأسودين تضافرت قوى الشر لتصفعنا التقارير بتعرض المدارس لـ (14) اعتداء متفاوتا، ولكن المسلسل لم ينته، فمنذ شهر سبتمبر إلى فبراير الجاري تعرضت المدارس لـ (32) اعتداء، تراوحت الاعتداءات بين إلقاء الزجاجات الحارقة، والحرق، والتكسير والتخريب، وقد تولت خفافيش الظلام تلك الأعمال في الليل غالبا، فيما تولت غربان النهار مهمات التفريق بين الطلبة وبين المعلمين والهيئات الإدارية محاولة هدم كل ما بنيناه جميعا من قيم ومثل وأخلاقيات، واستغلال الأطفال وتسييسهم جهارا وإخراجهم من مدارسهم ليتركوا مقاعد الدراسة وينضموا إلى صفوف المتظاهرين، هكذا يتم الزج بهم في الصراعات السياسية وفي معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل ليجنوا الخراب.
وحين نجحت وزارة التربية والتعليم مسنودة بإرادة المجتمع والدولة في إحباط محاولات إيقاف السير الطبيعي للتعليم وهي محاولات مخططة وشرسة ومدعومة من أحزاب ومنظمات تتوسل أكثر وسائط الإعلام والتواصل رواجا عمد المخربون من جديد إلى مضاعفة الهجمات على المباني المدرسية في محاولات يائسة يكفي فاعليها صغارا أنهم يقومون بها خفية ويقترفونها تحت جنح الظلام وهم ملثمون، وأتحدى أيا من هؤلاء المعتدين على مدارس البحرين أن ينزع لثامه ويكشف وجهه للناس وليرينا من يكون.
تجرى الاعتداءات على المدارس وسط صمت كصمت القبور من قبل الذين ملأوا الدنيا ضجيجا عن حقوق الإنسان، كأن التعليم ليس واحدا من تلك الحقوق ومن قبل رجال العلم والدين كأن المدرسة شيء لا علاقة له بالعلم أو الدين، فلك الله يا مدارس البحرين.