شرق و غرب
الأزمة السورية والعلاقات التركية - السورية
تاريخ النشر : الخميس ٢٣ فبراير ٢٠١٢
لقد تأكد مرة أخرى مدى ما تتسم به منطقة الشرق الأوسط من أهمية استراتيجية وتعقيد. لقد تجلت هذه الحقيقة في خضم التحولات الكبيرة التي تشهدها هذه المنطقة من العالم. فالربيع العربي والانسحاب العسكري الأمريكي من العراق والمواجهة بين إيران والغرب وصعود تركيا كلها أحداث كبيرة ساهمت في إعادة رسم الخريطة الجيو - سياسية والاستراتيجية فيما تظل خطوطها الجديدة غير واضحة.
إن الشرق الأوسط الجديد لن تؤثر تداعياته في الدول الإقليمية فقط بل إنها ستمتد لتنعكس على العلاقات ما بين الدول في منطقة أكثر اتساعا جغرافيا، وخاصة العلاقة بين تركيا وروسيا، فالتحولات والاضطرابات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط قد أبرزت المواقف المشتركة ما بين تركيا وروسيا تجاه بعض المسائل المطروحة غير أنها عكست التباين في المواقف من بعض القضايا الحساسة. إن الأزمة السورية قد تكون لها عواقب وخيمة على مستقبل العلاقات بين روسيا وتركيا.
أهداف مماثلة، رؤى متباينة
تتفق تركيا وروسيا في هدف جوهري من خلال نظرتهما إلى منطقة الشرق الأوسط: الاستقرار. إن تركيا وروسيا لهما ايضا من الأسباب ما يجعلهما تتخوفان من تنامي الحركات الإسلامية الراديكالية في المناطق التي تعاني الفوضى وانعدام الاستقرار، كما أن للدولتين من الأسباب ما يجعلهما تخشيان تفجر الصراعات الإقليمية وتدفق الأسلحة واللاجئين. صحيح أن روسيا تظل بعيدة نسبيا عن منطقة الشرق الأوسط لكن باعتبارها قوة كبيرة في منطقة «أوراسيا» فإنه يحق لها أن تعبر عن مخاوفها من انعدام الاستقرار في منطقة مجاورة لها وذات أهمية استراتيجية كبيرة.
لكل من تركيا وروسيا مصلحة مشتركة في الحد من الحضور العسكري للاتحاد الأوروبي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. لقد أبدت تركيا وروسيا من قبل معارضة للغزو العسكري الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2003 في العراق. لذلك فإن أيا من الدولتين لا ترغب في تدخل عسكري غربي جديد في منطقة الشرق الأوسط.
لقد ظلت تركيا تتوجس وترتاب غريزيا من أي تدخل غربي، بالنظر إلى تاريخها والصدامات المتكررة مع الغرب، ناهيك عن أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان قد ظل يتخذ مواقف لافتة جعلت منه بطلا شعبيا مناهضا للإمبريالية في العالم الإسلامي.
إن المعارضة التي تبديها روسيا هي ناتجة إلى حد كبير عن عدائها للهيمنة الأمريكية. لقد ظلت سلطات موسكو تشدد على ضرورة ألا يكون لأي دولة أخرى الحق في التدخل في الدول الأخرى، مما يعكس مخاوف روسية من إمكانية إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على التدخل في الجمهوريات السوفيتية السابقة. رغم أن الاتحاد السوفيتي قد سقط منذ أكثر من عقدين من الزمن فإن ذات القوالب الفكرية لاتزال تحكم صناع القرارات السياسية في موسكو. لا تزال روسيا أيضا رهينة إرث الاتحاد السوفيتي الذي كان يرتبط بعلاقات وثيقة مع دول شرق أوسطية تدور في فلكه، الأمر الذي يجعل روسيا اليوم تبدي تخوفا كبيرا من أي تدخل أمريكي.
تعتمد تركيا وروسيا مقاربتين مختلفتين مرتبطتين باثنين من أهم المبادئ الجوهرية المضمنة في القانون الدولي، فتركيا تحدوها رغبة جامحة في لعب دورها الجديد كقائدة للشارع العربي في غياب دور الدول «المحورية» العربية، الأمر الذي جعل منها مصدر إلهام للديمقراطيين في منطقة الشرق الأوسط. لذلك فقد ظلت سلطات أنقرة تبدي دعمها لحق الشعوب في تقرير مصيرهم واختيار حكامهم بأنفسهم واختيار نمط النظام السياسي الذي يحكمهم.
ترتاب روسيا تاريخيا من كل التدخلات الأجنبية وخاصة منها الأمريكية وهي تشدد على مبدأي السيادة وعدم التدخل في شئون الدول الأخرى، اعتقادا منها أيضا أن الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط يمكن ضمانه من خلال إعطاء الفرصة للحكام كي يتعاملوا مع الانتفاضات الشعبية بطرائقهم الخاصة، عوض السعي إلى فرض حلول من الخارج بدونهم. من الناحية المبدئية يمكن اعتبار هذا الموقف امتدادا للسياسة الواقعية (الريابوليتيك) التي سادت فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، حيث يسمح للحكام المستبدين كي يفعلوا ما يشاءون طالما أن سياساتهم الاقتصادية والخارجية تتوافق مع سياسات موسكو لا واشنطون.
هناك أوجه اختلاف أخرى في المقاربات والرؤى بين تركيا وروسيا غير أن نقطة الاختلاف المركزية تتمثل أساسا بين تقرير المصير والسيادة، أي ما بين الشعبية والريابوليتيك. إنها بلا شك نقطة جوهرية مهمة قد تحدد ملامح العلاقات المستقبلية بين تركيا وروسيا.
ماذا عن الأزمة السورية؟
لقد تحولت الأزمة السورية بسرعة إلى واحد من أخطر العوامل والتطورات الناجمة عن «الربيع العربي» التي قد تزعزع الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. فدور سوريا المحوري والجيو - سياسي ونفوذها وثقلها في منطقة الهلال الخصيب وعبر كامل منطقة الشرق الأوسط يعني أن اندلاع حرب أهلية هناك قد يعود بعواقب وخيمة إقليميا ودوليا. إن المصلحة تحتم على كل من تركيا وروسيا العمل على تفادي انزلاق سوريا في حالة من الفوضى العارمة والحرب الأهلية المدمرة التي قد تكون لها امتدادات طائفية وإقليمية خطرة.
إن تركيا دولة مجاورة تربطها بسوريا علاقات قديمة ومعقدة. لقد بلغ التوتر حدته بين البلدين في التسعينيات من القرن الماضي وذلك عندما راحت سلطات أنقرة تهدد بالدخول في حرب ضد سوريا إذا لم تقم سلطات دمشق في عهد حافظ الأسد بتسليمها زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان وتتخلى عن دعم الانفصاليين الأكراد المسلحين. لقد اضطرت سوريا إلى التراجع ليبدأ جليد العلاقات الذوبان تدريجيا.
تنتهج تركيا سياسة خارجية تقوم على أساس مبدأ «صفر مشاكل» مع الدول المجاورة، وهي السياسة التي هندسها وزير الخارجية في الحكومة التركية الحالية أحمد داود أوغلو. تلعب التجارة دورا كبيرا في مثل هذه السياسة الخارجية في بناء العلاقات بين الدول، ففي سنة 2010 بلغت الصادرات التركية إلى سوريا مبلغ مليار وثمانمائة مليون دولار علما أن إجمالي صادرات تركيا في سنة 2010 بلغ 113 مليار دولار. لقد لعبت سوريا دورا كبيرا حيث انها تحولت إلى نقطة عبور للصادرات التركية إلى بقية دول الشرق الأوسط.
تعتبر روسيا من أكبر الشركاء التجاريين لسوريا، حيث ان الصادرات والاستثمارات الروسية في سوريا تناهز عشرين مليار دولار، إضافة إلى صفقات السلاح النشطة: باعت موسكو لسلطات دمشق منذ سنة 2006 ما يفوق أربعة مليارات من الدولارات وقد شملت تلك الصفقات المتتالية الدبابات والمروحيات والطائرات المقاتلة والصواريخ المتطورة.
أما ميناء طرطوس السوري المطل على حوض البحر الأبيض المتوسط فقد تحول إلى ما يشبه القاعدة البحرية الروسية وينتظر أن تزداد أهميته الاستراتيجية، ذلك ان سلطات موسكو تعمل الآن على تعزيز قدراته الملاحية وإعادة تصميمه حتى يصبح قادرا على استقبال كبرى البوارج الحربية الروسية بدءا من السنة الماضية، وهو ما يتوقف على بقاء نظام بشار الأسد الموالي لروسيا. خلاصة الأمر تعتبر سوريا من أهم وآخر مواطئ القدم المتبقية لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، حيث تظل روسيا قادرة من خلال نفوذها في سوريا على التأثير في مجريات الأحداث في منطقة الهلال الخصيب وفي الصراع العربي - الإسرائيلي المزمن.
إن العمل على تفادي الفوضى في سوريا يمثل هدفا شاملا وعاما. تحمل تركيا وروسيا رؤيتين مختلفتين لمستقبل سوريا كما أنهما اتخذتا مواقف متباينة مختلفة من الانتفاضة الشعبية ضد نظام بشار الأسد، فرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان طالب علنا الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي واتهمه «بالتغذي من دم الشعب السوري» وهو الموقف الذي ردده العديد من المسئولين الأتراك الآخرين.
لقد سمحت سلطات أنقرة لأطراف المعارضة السورية ؟ وخاصة المجلس الوطني السوري ؟ بتنظيم صفوفها وبلورة مشاريعها فوق أراضيها كما أن مخيمات اللاجئين المقامة قرب المناطق الحدودية قد تحولت إلى ملاذات آمنة للجيش السوري الحر المناهض لنظام دمشق.
لقد قطعت تركيا الروابط التجارية كما فرضت جملة من العقوبات على النظام السوري والمقربين منه بهدف الضغط على بشار الأسد ودفعه إلى التنحي عن الحكم، أو على الأقل وقف هجماته الدامية على المعارضة وتشكيل حكومة إصلاحية حقيقية. لقد حرقت سلطات أنقرة الآن الكثير من الجسور مع نظام دمشق حتى انها لم تعد قادرة على إعادة النظر في دعمها للمعارضة أو إدانتها القوية لنظام الأسد.
أما روسيا فقد ظلت بالمقابل ترفض بشدة الضغوط التركية والغربية على نظام بشار الأسد. لقد أجهضت روسيا مشاريع القرارات في مجلس الأمن الدولي بدعوى أنها تتضمن إدانة للنظام السوري أو فرض عقوبات دولية مشددة. وفيما كانت الدول الغربية والعربية معها تشدد الخناق على سوريا كانت روسيا بالمقابل تسعى إلى تقوية علاقتها مع نظام دمشق كما أن سلطات موسكو قد أرسلت بعض بوارجها الحربية إلى ميناء طرطوس تعبيرا عن دعمها لنظام دمشق كما أنها أعلنت أنها ستظل تبرم صفقات السلاح مع سوريا.
لقد أنحت سلطات موسكو اللائمة على المعارضة وحملتها المسؤولية عن أعمال العنف في سوريا كما ظلت تطالبها بالحوار مع نظام دمشق من أجل تسوية الأزمة السورية. في شهر ديسمبر الماضي طرحت روسيا مشروع قرار حول الأزمة السورية في مجلس الأمن الدولي غير أن الدوائر الدبلوماسية الغربية قد رفضته لضعفه. هذا يعتبر تغييرا في السياسة مما يعكس تنامي الموقف الدولي القوي المناهض للنظام السوري.
إن هذه المقاربات المتباينة بين تركيا وروسيا لم تؤثر حتى الآن في العمق في العلاقات بين البلدين اللذين تجنبا حتى الآن تبادل الضربات التجارية حول هذا الموضوع. لا شك أن البلدين يشددان على هذا التباين في المقاربات الذي قد يؤثر فعلا في العلاقات الثنائية إذا ما تفاقمت الأزمة السورية واتخذت أبعادا أكثر خطورة. إن انزلاق سوريا في حرب أهلية شاملة أو حدوث تدخل عسكري تركي أو انهيار نظام الأسد من شأنه أن يضع روسيا وتركيا في مسار تصادمي، الأمر الذي سيؤدي بكل تأكيد إلى تدهور العلاقات الثنائية.
إذا ما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا فإن تركيا قد تكثف من دعمها للمعارضة، وقد يصل الأمر إلى حد التدخل العسكري التركي ؟ ولو بشكل محدود - أو تزويد الجيش السوري الحر بالأسلحة. إن مثل هذا التطور الخطر من شأنه أن يستفز ويغضب روسيا ويؤدي إلى نشوب حرب كلامية بين موسكو وأنقرة.
إن التدخل العسكري التركي قد يؤدي إلى تبعات أخرى وخيمة وأكثر خطورة، وخاصة في ظل صفقات الأسلحة التي لاتزال تبرم حتى اليوم مع سلطات دمشق، من ذلك مثلا أن موسكو قد زودت نظام الأسد مؤخرا بصواريخ مضادة للطائرات. قد نتصور غضب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان إذا ما قتل الجنود الأتراك بأسلحة روسية وبأياد سورية.
إن الإطاحة بنظام بشار الأسد واستبدال المجلس الوطني السوري ؟ المدعوم من تركيا ؟ به أو بصيغة لتقاسم حكومة يلعب فيها المجلس الوطني دورا أساسيا قد يؤدي إلى طوفان من التغييرات في العلاقات.
التداعيات المحتملة
عندما نتمعن في السرعة التي أبدتها تركيا في تقليص العلاقات التجارية مع الدول التي تسيء إليها (مثل إسرائيل وفرنسا) فإننا قد ندرك أن العلاقات بين أنقرة وموسكو قد تتأثر بدورها جراء تداعيات الأزمة السورية.
في الحقيقة ستكون تداعيات الأزمة السورية على العلاقات بين تركيا وروسيا أقل من التداعيات على العلاقات بين سلطات أنقرة مع كل من إسرائيل (قضية سفينة مرمرة التي قتل على متنها تسعة من النشطاء الأتراك أثناء توجههم إلى غزة ضمن أسطول الحرية) وفرنسا (اعتماد البرلمان الفرنسي قانون تجريم إنكار إبادة الأرمن).
قد تكون تركيا وسوريا شريكتين مهمتين من الناحيتين الاقتصادية والأمنية غير أن روسيا تلعب دورا أكبر. تعتمد تركيا على روسيا في تأمين قرابة 70% من حاجياتها من الغاز الطبيعي. عندما نشبت الحرب بين روسيا وجورجيا اعترفت تركيا بأن تبعيتها للغاز الطبيعي الروسي تقيد حريتها السياسية.
قد تكون هذه التداعيات في البداية محدودة وتقتصر بالتالي على إلغاء بعض المشاريع الصغيرة والبرامج المشتركة بين تركيا وروسيا. قد يتأخر مشرع أنبوب الغاز الروسي عبر المياه الإقليمية التركية بعض الشيء كما أن سياسة التعاون من أجل السلام في منطقة القوقاز قد تتأثر نسبيا.
أما الضرر الأكبر الذي قد ينجم عن تداعيات الأزمة السورية على مستوى مستقبل العلاقات بين تركيا وروسيا فهو يتمثل في الانطباع بأن البلدين يقفان على طرفي نقيض في منطقة حساسة ومهمة استراتيجيا مثل الشرق الأوسط. لا شك أن هذه التداعيات ستخيم بظلالها على العديد من المسائل الأخرى الأكثر اتساعا وأهمية مثل إيران، كما أنها قد تؤثر على المدى البعيد في العلاقات الخاصة مع الغرب.
* محلل مختص في الأخطار السياسة بمؤسسة «ميناس» في لندن كما أن كتاباته تتعلق بقضايا السياسة والأمن والطاقة مع التركيز خاصة في منطقة بحر قزوين.