الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية

تاريخ النشر : السبت ٢٥ فبراير ٢٠١٢

عبدالله خليفة



لعل التحولات الهائلة خلال نصف القرن الماضي أوضحت بجلاء ضرورة تحول اليسار إلى تكوينات ديمقراطية حقيقية، لمواكبةِ مهماتِ التغييرات الراهنة والمستقبلية خاصة.
فقد تكسرتْ الرأسمالياتُ الشموليةُ الشرقية بجميع مفرداتها الايديولوجية وأخذت عظامها الداخلية بالبروز، ولم تعدْ لديها قدرات على مواصلة التحام رأس المال بالدول الوطنية والقوميات، وغدا تعبيرها عن فئات صغيرة عقبة لتحولات أكثر تطوراً للتشكيلة.
القوميات في مستويات ظهورها الأولى وحاجاتها للتصنيع السريع والحريات الوطنية، جعلتْ البرجوازيات البيروقراطية الرافعة السياسية لهذه العمليات التحولية، حتى توقفتْ قدراتُها عن التطور الاقتصادي العميق وقدراتها على حل التناقضات الجمة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية لكل بلد.
الجماعات الحاكمة الشمولية المختلفة المتعددة في القارات أسست ذلك وخاصة اليسار العالمي، حتى توقفت عن التطور كل في موعد وفاته، ودخلت مقولاتها الوطنية التوحيدية والدينية والقومية والاشتراكية في تناقضات حادة مع واقع هذه الدول، وفيما تتحدث عن مستقبل زاهر كانت الدولُ تغوصُ في تناقضاتٍ غيرِ محلولة لبناء رأسمالي مشوه أو متناقض غير متكامل.
القطاعات الخاصة التي أنشئت أو كانت موجودة في هذه الدول لا تقدر أن تكون تجاوزاً نضالياً كعادةِ رؤوس الأموال، فهي تنتظرُ النزيفَ الأخيرَ للأنظمة، وعدم قدرتها على الرد الواسع.
كذلك فإن القطاعات الخاصة في أنظمة رأسمالية الدول تكون مريضة مثلها، لم تتح لها قوانين التطور الاقتصادي المجهضة أن تشكل تجارب مستقلة.
الانفجارات الاجتماعية التي حدثت في الحلقات الضعيفة من الرأسماليات الحكومية الشرقية جعلت من الأديان قوة اجتماعية سياسية.
وهذا تعبيرٌ متناقضٌ عن تخلف كبير وعن تقدم طفيف غامض، فالمحبوسون ظهروا من السجون الاجتماعية، معشيي العيون، الآن هم لا يعرفون أين هي سبل التطور والأرضية مضطربة.
حين تتكون كتلة شيوعية قومية في روسيا فهي تواجه التحول الديمقراطي وتصارع التحولات الديمقراطية في العالم الثالث باعتبار ذلك خدمة للغرب، فهي بهذا تعبر عن الهيكل البيروقراطي القومي الذي عاشت باستغلاله، وزوال بقاياه سيعبر عن مشكلات جديدة على العمال خاصة، وعن انتصار للبرجوازية الليبرالية، وتراجع مواقف اليسار الشيوعي واليمين القومي.
سنواتٌ طويلة من الإخلال بقوانين السوق وقيم السلع وتشوه الهياكل الاقتصادية وهدر ثروات كبرى وسحق قوى عاملة بشرية، كل هذه سوف تدفع أثمانها الجماهير وستعمل مجدداً بظروف صعبة وهي التي ثارت وتطلب الرفاه.
كان هذا هو ثمن عدم تطوير اليسار باتجاه الديمقراطية خلال عقود في المعسكر الاشتراكي وفي دول مثل العراق وليبيا واليمن وسوريا.
الجمع بين التطور الاقتصادي والديمقراطية، يقود لاقتصاد السوق وتداول السلطة والحداثة وإيجاد تيارات وطنية تحديثية، وتطوير الإنتاج ونشر مكاسبه على القطاعات الجغرافية المذهبية والدينية والقومية، أي على مختلف جماعات السكان.
وعدم حدوث ذلك يعني تصاعد الايديولوجيات الأخرى المعبرة عن هذه القطاعات والقوى المؤثرة فيها، والتي تعرضت سياداتها العشائرية أو الدينية أو القومية للتقزيم، التي انتظرت الأزمات الاقتصادية الاجتماعية طويلاً، وهي الأزمات التي تنتج من حدوث عجز عميق في تطور الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، وهي ذاتها التي استغلتها القوى الثورية السابقة في القفز للحكم، في أشكال من المغامرات في حين تستغلها القوى الدينية المحافظة في أشكال ثورية للمراوحة في الماضي والحاضر وتلمس المستقبل بتجريبية سياسية.
وفيما أن الأفكارَ العصرية المؤدلجةَ المقولبة تُنخرُ وتتحطم تصعدُ الأفكارُ القديمة، من أجل عمليات تحول جديدة ملتبسة بين الشمولية والديمقراطية.
لقد بينت التحولات أهمية الديمقراطية وضرورة تشكيلها أداة للتحول السياسي والتطور الاقتصادي، وفيما خسرت القوى اليسارية الكثير من فاعلياتها بسبب غيابها عن الديمقراطية، تجد العناصر الديمقراطية القليلة فيها صعوبات للتأثير في التحولات العالمية الشرقية خاصة. فيما أن بعض الجماعات الدينية التي وقفت ضد الشموليات تصعد وتؤثر بشكل عالمي.
تغدو مهمات اليسار الديمقراطي كثيرة وكبيرة وأهمها مساعدة القوى الدينية على تلمس طرق التطور في بلدانها، بألا تبقى في دوائر الشمولية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبأن ترى مصائر وتطورات الأمم الإسلامية في بناها الوطنية والقومية، وأن تنزع الأغلفةَ الخارجية عن عمليات الصراعات الاجتماعية والأردية المذهبية المغلقة، وأن تتطلع لتحولات اقتصادية ثورية تنتشل الملايين من وجودهم في اقتصاد الدول البيروقراطي الهامشي البذخي، اقتصاد البطالة المقنعة بل اقتصاد القيادة الصناعية العلمية، وأن يكون اقتصاد السوق يغدو إنتاجاً كذلك، وعمليات التطور الاقتصادية الكبرى التي تقام على أسس ديمقراطية هي التي ستضعف من التقوقع المذهبي والتناحرات القومية والمناطقية وتعيد تشكيل الشعوب على أسس وحدة جديدة.
إن الأشكالَ السياسية من المذاهب ليست تعبيراً عن مقولات فكرية واجتماعية بل هي كذلك تعبير عن أسلوب إنتاج فككَ عرى الناس خلال قرون، وجعل الأمم تتصادم وحلقة الحداثة الشمولية السابقة قامت بقفزات مهمة في جوانب ومضرة في جوانب أخرى، ويُنتظر من الحلقة الجديدة من التطور التأني في دراسة كل نظام ومشكلاته وسبل تغييره بشكل شعبي ديمقراطي واسع النطاق وتكون الحلول والخطط الاقتصادية كذلك شعبية ديمقراطية.