أفق
بين الثقافةِ والنواب
تاريخ النشر : الاثنين ٢٧ يناير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
احتجاجُ النواب على نشاطات وزارة الثقافة غريب، ليس لأنه نقد واحتجاج بل لأسلوبِ هذا الاحتجاج السلبي العاجز.
هذا الأسلوب السلبي يعبرُ عن عدم تحليل ومراقبة الأنشطة في إحدى الوزارات، فكان الدينُ قبل الواجب الوظيفي يحتم قراءة الأرقام المالية للوزارة ورؤية كيفية صرفها ومدى ضخامة أو معقولية الأرقام، وهل هي بذخية استعراضية أم أنها موظفة بدقة في سبيل أنشطة مفيدة؟
لكنهم لم يفعلوا ذلك بل اكتفوا بالاحتجاج ومقاطعة الجلسة لبعض الوقت.
وقد اعتاد النوابُ للأسف في بعض أعمالهم اللجوء إلى مثل هذا الاختزال وعدم تحليل المشكلة أو الظاهرة وعدم تقديم نقد أو أسئلة أو استجواب يثري القضية وينقلها إلى مستوى جديد من التطور للوزارة المنقودة أو للبلد المحتاج لكلِ جزءٍ من دخله فيما هو مفيد للناس.
ويعبرُ هذا الموقف تجاه هذه القضية تحديداً عن عدم الغوص في تحليل الظاهرة، والاكتفاء بالموقف السلبي من الخارج، وقد جاء الموقف السلبي من خلال الإدانة العامة للوزارة بأن مثل هذه الاحتفالات الثقافية تتناقض مع المذبحة التي تجري للشعب السوري، وهو ربط في غير محله، فقد جرت مذابح كثيرة خلال عام سابق من دون أن تتوقف الحياة بمختلف مظاهرها، والثقافة من مهماتها أن تعترضَ على المذابح لا أن تكون ضحيةً لها.
هو ربطٌ هروبي وتعلل غريب لأنه لا يريد أن يقول إنه يكره هذه الاحتفالات لأنها احتفالات ثقافية عصرية لا تدخل في عالمه التقليدي، فيتعلل بسببٍ آخر.
ولهذا فإن السخرية من الموسيقى السيمفونية والمسرحيات والقصائد والندوات التي لا يحضرها سوى القلة بينما هو يقيم ندوات يحضرها الكثيرون، تعبر عن نظرة عدمية فيتوهم بسبب هذه الرؤية موت هذه الثقافة وعدم جدوى الصرف عليها.
وهي رؤية تقليدية سلبية أنزلتْ مفرداتها السياسيةَ المحافظة على ظاهرة عصرية من دون درس لها، فلا يرى أن ثقافته التي تحضرها جماعةٌ محدودةُ القراءةِ والاطلاع هي التي تمثل المشكلة، وأن هؤلاء الناس بحاجة إلى القراءة وفهم الثقافة العصرية والاستمتاع بالروايات والقصص والموسيقى ومعرفة جوانب كبرى في الحضارة المعاصرة لكي يتطوروا نقداً وفهماً للواقع إضافة لثقافتهم الدينية الإنسانية.
فالمسألة ليست بالكم، بل بنوعيته، فالنشطون في الثقافة هم نوعية مختلفة، وقراء كبار للتاريخ والمعرفة، وهم يصنعون المستقبل على قلتهم، فيما بعض هؤلاء النواب متوقف عند الماضي، لا يحاول التوجه للمستقبل ويتجمد عند الماضي.
وكان الموقف الايجابي الموضوعي هو درس الميزانيات الثقافية ورؤية مدى مساهماتها في تطوير الثقافة الوطنية البحرينية والثقافة القومية في المنطقة، فأين دورها في تطوير الكتاب البحريني المتجمد؟ وأين مكانها من موسيقى غنائية بحرينية تحتضر فيما كل دول الخليج في حالة ثورة غنائية؟ وأين دورها في مساعدة جيل شبابي جديد واسع من القصاصين والشعراء والمسرحيين والنقاد ينتظر طباعة مسوداته النائمة في الأدراج عبر سنوات طويلة؟ وماذا فعلت بهذا الكم من الأراضي المحاطة بالأسلاك في الأراضي الزراعية تنتظر فحصها التراثي الحفري؟
كذلك لابد أن تُثمن الظواهر الايجابية مثل الاهتمام بمتابعة الثقافة البحرينية وخاصة مسائل التراث والتاريخ، وإضفاء على البلد مسحة وطنية خاصة والانفتاح على الثقافة الإنسانية كذلك.
هذه الأسئلة وغيرها كان ينتظر أن تظهر حتى لدى بعض النواب المتميزين بمتابعتهم لهذه القضايا، ولكن العلاقة المشروخة بين الوعي المذهبي السياسي المحافظ والوعي الوطني الحديث تمنعُ من تحليلِ القضية، وأن تُجري بهذا تدقيقاً رصيناً يكشفُ السلبيات ويثمن الايجابيات، ويتغلغل في حياة البلد بغض النظر عن مواقفه المسبقة من ثقافة (الرقص والموسيقى)، ويحدد ما هو البذخي من مصاريف الثقافة وما هو المنتج منها، ما هو الشكلاني الاستعراضي المظهري والدعائي، وما هو المفيد لحياة الناس ينزعُ أسلاكَ المناطق المسوّرة ويحول المواقع الأثرية إلى معالم مهمة ويحرك الأوراق المتجمدة في الأدراج ومشروعات الأشرطة ويوقف المسارح المثقلة بالميزانيات الشحيحة على قدميها ويدعم الكتب المتوقفة عن الصدور ويرفد المكتبات الوطنية التي تكاد أن تنقرض.
من الضرورة الوطنية النضالية أن يراقب النائب بعقلية متفتحة الظواهر سواءً أكانت مع جماعته أم ليست معها، سواءً أكانت تفيد جماعته أم لا تفيدها، لأنه نائب للشعب وليس لفئة ستجعل مقعده دائماً.
لهذا فإن نقد ومحاربة ظواهر إتلاف المال العام وترشيد إنفاقه ضرورة كبرى، لكن عبر تطوير أدوات المراقبة والتحليل واتساع الأفق الفكري بحيث تكون الكلمةُ البرلمانية نتاجَ موقفٍ وطني عميق وألا تكون استعراضية كبعض ظواهر الثقافة المنقودة.
كان من الممكن للنواب أن يفتحوا مواقع ويسألوا مثقفين ويتابعوا ما كُتب من مشكلات ثقافية عبر سنين، لكنهم اكتفوا بالحل السهل وإدخال الثورة السورية في القضية.