دراسات
التجربة التركية في التنمية.. كيف يمكن لمصر والخليج العربي الاقتداء بها؟
تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٨ فبراير ٢٠١٢
تمثل التجربة التركية في النهوض بالدولة والمجتمع أحد أهم النماذج في المنطقة، بل العالم الإسلامي بأكمله، حيث شهدت خلال السنوات الماضية طفرة اقتصادية واجتماعية وسياسية بقيادة حزب «العدالة والتنمية» ذي التوجهات الإسلامية.. الذي أذهل الساسة والمحللين الاقتصاديين بمجرد اعتلائه قمة العمل السياسي التركي بتأييد شعبي، لم يسبق أن وصل إليه أي من الأحزاب التركية، وكذا بالنهضة الاقتصادية المتسارعة التي دفعت بالمواطن التركي إلى التقدم والرقي على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
فقد استطاع هذا الحزب أن يصنع من الفشل نجاحًا، حيث كانت تعيش تركيا أزمة مالية نابعة من اتباعها برنامج الإصلاح الذي وضعه صندوق النقد الدولي لها منذ 1980، المعتمد على الخصخصة والإصلاح الضريبي والمالي والإصلاحات القطاعية، حيث كانت له آثار سلبية، وهو ما تسبب في حدوث أزمة اقتصادية تركية عام 2001 كانت أبرز مؤشراتها وصول معدل البطالة إلى نحو 10% وعجز الموازنة إلى 23 مليار دولار مقارنة بنحو 2,5 مليار عام 2000، فيما وصلت الديون الخارجية إلى نحو 203 مليارات منها 122 مليارًا ديون خارجية، وانهيار العملة التركية (الليرة) بنسبة 50%.
ولكن لكون النجاح في جزء كبير منه يعتمد على تفادي الأخطاء الماضية، لذا فعندما صعد حزب «العدالة والتنمية» إلى سدة الحكم كان هذا الأمر بمثابة نقطة فارقة في التجربة التركية؛ حيث لم يتجاهل ما تحقق في سلسلة الإصلاح الأولى منذ 1980 أو ما يسمى بـ (الجيل الأول) التي تركزت في الإصلاح في القطاعين العام والخاص وتحرير التجارة، ولكن كانت تلك الفترة الإصلاحية تتميز بوجود روابط مفقودة مثل غياب الإصلاحات الاجتماعية في التعليم المتميز ومشاكل العمالة والخدمات الصحية، وكانت تلك الإخفاقات هي إصلاحات الجيل الثاني الذي بدأ منذ عام 2001 في السعي للتغلب على تلك التحديات، واستغل الموقع الجغرافي المميز، الذي جعله جسرًا للتجارة بين المنتجين والمستهلكين والتنوع المناخي والقوة البشرية الشابة والموارد الطبيعية، ولكن هذه المرة بالاعتماد في سياسته على قوة الدفع الخاصة باستلهام المبادئ الإسلامية وربطها بالاقتصاد والعلمانية كمرجعية للانطلاق، حيث ركز في ضرورة الانطلاق من التدرج في تطبيق القيم، من أجل الوصول بالاقتصاد التركي إلى مصاف الاقتصادات العشرة الأولى على مستوى العالم، وذلك من خلال العمل على إعادة توزيع الموارد لإزالة الفوارق بين الطبقات ونشر القيم الديمقراطية، كما أجاد حزب «العدالة والتنمية» لغة التخاطب والحوار وتطبيق القانون على الجميع، بدءًا من الجيش الذي كان يتدخل في السياسة بشكل كبير. وعلى المستوى الخارجي عمل على تحسين علاقاته الخارجية الإقليمية والدولية من خلال التركيز في عدم تدخل أي طرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، وذلك من منطلق «تصفير المشاكل»، وكان من إحدى أهم سمات السياسة الخارجية الجديدة التي يقودها الحزب هي كون هذه السياسة مدفوعة إلى حد كبير بالمصالح الاقتصادية والتجارية. ونلاحظ أن رئيس الحكومة يصطحب معه في رحلاته الدولية الكثيرة، أعدادًا كبيرة من رجال الأعمال الأتراك.
وهو الأمر الذي شهدنا نتائجه من خلال ارتفاع حجم الناتج المحلي الإجمالي التركي من 70 مليار دولار في عام 1980 إلى أكثر من تريليون دولار في عام 2011، فيما ارتفعت الصادرات إلى 143,9 مليار دولار، وهو الأمر الذي رفع تصنيف الاقتصاد التركي على المستوى العالمي عدة مراتب؛ حيث أصبح في المرتبة الـ 17 عالميا مقارنة بالمرتبة الـ 25 في عام 1980، كما كشف تقرير لمعهد الإحصاء التركي (تركستات) في نهاية عام 2011 أن معدل النمو الاقتصادي في تركيا سجل مستوى فاق 8% في الربع الثالث من عام 2011 لتحتل بذلك المرتبة الثانية عالميٌّا بعد الصين في معدلات النمو، وكانت مشاركة القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي على النحو التالي: 10% للزراعة و30% للصناعة، فيما كانت الخدمات صاحبة النصيب الأكبر من الناتج، ذلك بنسبة 60%.
كما استطاعت تركيا تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، فهي تحتل المرتبة الثامنة في الاقتصاد الزراعي العالمي، مقابل المرتبة رقم 11 قبل مجيء «العدالة والتنمية» للحكم، وتُصدر المنتجات الزراعية التركية لأكثر من 177 دولة في العالم، بل تسعى إلى تحقيق هذا الاكتفاء على مستوى عدد كبير من السلع الزراعية والصناعية؛ حيث تحتل المرتبة الـ 30 عالميٌّا في صناعة الصلب، كما غدت تركيا الأكثر تنوعًا في الإنتاج إقليميٌّا، ومن أهم الصناعات في تركيا: المنسوجات، المواد الغذائية والمشروبات، الكهربائيات، السيارات، الكيماويات، الجلود.. وقد حصلت تركيا على المرتبة الثالثة عالميٌّا في تصدير المنسوجات بعد ألمانيا وإيطاليا.
ونظرًا للسمعة الجيدة التي غدت تحظى بها المنتجات التركية ولكون ظاهرة تسجيل العلامات التجارية من أكثر ظواهر التقدم في العالم، وتدل أيضًا على قوة الاقتصاد أصبحت تركيا إحدى الدول العالمية القليلة التي تقوم بتسجيل العلامات التجارية، فقد تم تسجيل 85 ألف ماركة سنويا عام 2010، بينما كانت تسجل 29 ؟ 105 ماركات قبل عشر سنوات، وتهدف تركيا إلى تسجيل 100 ألف ماركة هذه العام 2012، وهو ما ستتجاوز به فرنسا الرائدة في هذا المجال.
وكذلك أصبحت تركيا بلد الفرص في الاقتصاد العالمي، حيث أصبح يعمل فيها اليوم حوالي 18 ألف شركة أجنبية مقابل 5 آلاف شركة أجنبية فقط عام 2002، وجذبت استثمارات مباشرة بقيمة 12,1 مليار دولار خلال الأحد عشر شهرًا الأولى من عام 2011، فيما ارتفعت هذه الاستثمارات بنسبة 70% خلال الفترة ذاتها مقارنة بعام .2010 الجدير بالذكر أن 86% من جميع الاستثمارات المباشرة التي أقيمت في تركيا خلال الفترة المعنية من عام 2011 تدفقت من أوروبا.
وهذا يضيف قيمة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا بالإسهام في زيادة قدراتها التنافسية، كما تقوم الآن باستغلال موقعها الجغرافي، الذي وهبها مناخًا مناسبًا ومصادر طاقة طبيعية؛ حيث بدأت أول جزيرة للهيدروجين في جزيرة «بوزجة ادا» بتوليد الكهرباء، وبعد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تم البدء بإنتاجها من سماد الدجاج، ونجحت شركة «سويوت ويند» التركية في صناعة التوربينات الوطنية التي تعمل على طاقة الرياح، والتي كانت تستوردها من الخارج، وذلك بفضل التشجيع الذي تقدمه الحكومة للحد من استيراد البضائع التي بالإمكان صناعتها في تركيا.
إن هذا التحول نابع من التنوع الاقتصادي الذي اتبع على عدد من المستويات سواء كان تنوعًا سوقيٌّا، الذي اتضح مما سبق، أو جغرافيٌّا أو تنوعًا في الموارد، وفيما يخص التنوع الجغرافي فقد تم على مستويين أحدهما داخلي والآخر خارجي، وبالنسبة للمستوى الأول كان من خلال زيادة المدن الصناعية بدلاً من الاعتماد على اسطنبول وأنقرة، كما كانت الحال سابقًا، وهناك مساع لنقل التنوع الجغرافي الداخلي إلى الجزء الشرقي، الذي مازال بحاجة إلى اقتحامه بالتصنيع وتحويل الصناعات إليه من الغرب.
كما حدث تنوع في توزيع السوق الإقليمية؛ حيث انخفضت التجارة مع أوروبا لصالح الشرق؛ فقد شعرت تركيا بالحاجة إلى الانفتاح على الشرق، وتوسيع دائرة التحالفات؛ وذلك من أجل الحصول على خيارات أكبر وآفاق اقتصادية أرحب، ولاسيما أن ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي يراوح مكانه ردحًا من الزمن. هذا فضلاً عن الرغبة في الحصول على أوراق دبلوماسية واقتصادية تمكِّن الطرفين (تركيا والشرق الأوسط) من استثمارها في الغرب، وهو ما سيعزز بالتأكيد من مواقفهما في علاقتيهما بالغرب. وبشكل يتواءم مع هذا التوجه، تم اعلان تشكيل منطقة للتجارة الحرة بينها وبين كل من سوريا ولبنان والأردن، وقد تزايد حجم المبادلات التجارية بين تركيا والدول العربية بما يفوق الضعف خلال السنوات الخمس الأخيرة؛ حيث بلغ ما يقرب من 30 مليار دولار سنويا، فقد شهد معدل التجارة بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجي صعودًا قويٌّا في أقل من 10 سنوات، فطبقًا لتقرير البنك التجاري الدولي فقد ارتفع هذا الحجم من 1,5 مليار دولار في 1999 إلى 16,1 مليار دولار في .2008
كما عززت علاقاتها الاقتصادية مع جارتها إيران، فقد كانت الأخيرة عاشر أكبر شريك تجاري لتركيا في عام 2009؛ حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 5,4 مليارات دولار، فقد صدرت تركيا سلعًا قيمتها 2,025 مليار دولار للجمهورية الإسلامية في عام 2009 بزيادة بأكثر من 500% مقارنة بـ 334 مليون دولار في عام 2002 حين تولى حزب العدالة والتنمية الحكم المرة الأولى.. ومن ناحية أخرى، بلغ حجم التجارة التركية مع إسرائيل نحو 2,6 مليار دولار.
وهكذا استطاع حزب «العدالة والتنمية» استعادة قوة تركيا السياسية الإقليمية والدولية بعد صعود ترتيبها بين أكبر الدول الصناعية في العالم، فعندما تحسن الاقتصاد بدأت القيادة المزج بين الملفين السياسي والاقتصادي، وتحركت إقليميا ودوليا، بما يصب في مصلحة توفير المزيد من الفرص المتنوعة لزيادة نمو الاقتصاد، وهذا يعني أن الملف السياسي استمد قوته من قوة الاقتصاد.
وأمام هذا النموذج الذي يعد واحدًا من النماذج التي أدهشت المجتمع الإنساني؛ حيث كانت نهضته غير مسبوقة فعلاً بَينَ قريناتها وجيرانها، فجارتها روسيا برزت كقوة اقتصادية عسكرية، كما أن الدول الصاعدة المماثلة لها كالصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا برزت كقوى اقتصادية معتمدة على التجارة الخارجية والسكان.. ولكن تركيا برزت كقوة سياسية واقتصادية صاعدة وتعاونية مؤثرة إيجابًا في جيرانها والعالم، نرى أنه يمكن نموذجا للدراسة واستلهام الدروس منها بما يتلاءم للتطبيق في بعض البلدان العربية وخاصة مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، ولاسيما في ظل وجود تشابه كبير بين المقومات والإمكانيات التي اعتمدت عليها تركيا في النهوض وبين تلك الموجودة في مصر ودول التعاون، سواءً من حيث الديانة، حيث يعد الدين الإسلامي هو الأكثر انتشارًا بين سكان الجانبين، بالإضافة إلى الثقافة القريبة وتشابه مقومات التقدم والانطلاق، سواء من حيث المؤسسات أو التاريخ أو السكان أو الموارد الاقتصادية، فضلاً عن تشابه المشاكل أيضًا من قبيل عدم وصول المستوى التعليمي إلى المستوى المطلوب، إلى جانب الفقر والمشاكل الحياتية التي تواجه الطرفين، وإن كان هذا أكثر وضوحًا في مصر وتركيا منها في دول مجلس التعاون، كما يشتركان في أن التركيبة السكانية في تنام مستمر، ويغلب عليها فئة الشباب، على عكس الحال في أوروبا على سبيل المثال.
كما أن هناك توجها عاما في تلك الدول لإحداث تنوع في الهيكل الاقتصادي وإن اختلفت الدوافع، النابعة في تركيا ومصر من قلة الفوائض النفطية، في حين نجدها في دول مجلس التعاون نابعة من قرب نضوب تلك الفوائض التي تتميز بها اقتصاداتها عن غيرها في المنطقة والعالم، وبالتالي فإن تنمية الإنتاجين الزراعي والصناعي والخدمات والتجارة هي الطريق الوحيد لمواجهة الاحتياجات المتنامية لشعوبهم.
ويتعين الأخذ في الاعتبار أن تشابه المشاكل وتشابه مقومات التقدم ليسا هما الدافع الوحيد نحو الرغبة في استلهام دروس التجربة التركية في مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، وإنما يدفع لذلك شمول التجربة التركية لجوانب متعددة اقتصاديٌّا وسياسيٌّا واجتماعيٌّا، الأمر الذي أكسبها المصداقية والقبول.
ولدى مصر ودول مجلس التعاون الخليجي فرصة أن تكون ربما أكثر نجاحًا وأكثر قدرة على النهوض والتأثير الإقليميين والدوليين من تركيا، نظرًا لأنها لا تمر بأزمة اقتصادية طاحنة كما كانت تركيا، ولا توجد فيها انقسامات حادة بين الإسلاميين والعلمانيين كما كان ولايزال الحال في تركيا، ولديها ميزة الموقع الاستراتيجي المهم جدا في العالم.
وكذلك تتفوق دول التعاون الخليجي بقدراتها المالية الهائلة ونمو كبير قدره صندوق النقد الدولي بـ 7,8 في 2011 محققًا ناتجًا محليٌّا إجماليٌّا يبلغ 1,4 تريليون دولار لمنطقة لا يزيد عدد سكانها على 38 مليون نسمة، وهو النمو الذي يوفر فرصًا كبيرة لاجتذاب تدفقات استثمارية ضخمة من هذه المنطقة، فضلاً عن توسع مشترياتها، ولهذا فإن هذه المنطقة تشهد نشاطًا ترويجيٌّا ضخمًا من جانب القوى الاقتصادية الكبيرة للحصول على العديد من عقود الاستثمار، بالإضافة إلى فورة الإنشاءات سواء في مشروعات البنية الأساسية كمشروعات الطرق والمواني والمطارات والسكك الحديدية والمدن الصناعية والاقتصادية ومحطات الطاقة أو المشروعات السكانية.
ولكن بداية ينبغي أن نقتدي بالنموذج التركي في مساعيه لمحاربة الفساد ومكافحة الفقر والتركيز في التعليم والبحث العلمي والاقتصاد الرقمي والمعرفي في تعظيم القيم المضافة، على أن يتوازى ذلك مع العمل على دعم المشروعات الصغيرة وتحسين بيئة الاستثمار كمولد للقيم الإسلامية وكمرجعية للنهوض بدلاً من الثروات الناضبة، وتعزيز العمل المؤسسي؛ حيث تحرك النموذج التركي على المستوى السياسي بحكمة وثبات وثقة، نحو ديمقراطية حقيقية تُغلِّب قوة البرلمان والأحزاب السياسية، وألغى الطبيعة الاستثنائية لبعض القوى السياسية كالجيش أو القضاء خاصة المحكمة الدستورية العليا التي ألغت عشرات الأحزاب السياسية أغلبها إسلامية وكردية بحجة أنها تهديد للعلمانية أو الأمن القومي، وهو الأمر الذي يتوقف على الإرادة السياسية التي كانت سر نجاح التجربة التركية داخليا وخارجيا.
إن أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة النجاح التركية هو ما قام به حزب العدالة والتنمية من تبن لنموذج الدولة التنموية وتنحية الاعتبارات الأيديولوجية جانبًا حتى لا يستغرق الوقت في صراعات فكرية، فهذا النموذج هو الذي يجعل التنمية بأبعادها المختلفة هي مشروعة وأساس مشروعيتها يقوم على كفاءة إدارة الموارد الطبيعية والبشرية في تجسير فجوة التنمية، بتحقيق مراكمة مستمرة لمعدلات عالية من النمو الاقتصادي، وهو النموذج ذاته الذي سارت عليه دول النمور الاسيوية في أجيالها المختلفة، ورأس الحربة في تحقيق هذه المعدلات هو التصنيع المتوجه إلى التصدير، من دون أن يجور على الاهتمام بقطاع الزراعة الذي يوفر لهذا التصنيع بعضًا من مواده الخام، كما يوفر الأمن الغذائي، أو الاهتمام بقطاع الخدمات الذي يوفر للتصنيع الموارد المالية والبشرية، وتخدم الدبلوماسية الاقتصادية النشطة هذا التصنيع في فتح الأسواق أمام منتجاته، وتخدم هذه الدبلوماسية ميزة الموقع الذي تمتعت به تركيا وعلاقات تاريخية طويلة مع الشرق الإسلامي والجوارين الروسي والأوروبي.
وتملك مصر أكبر دولة عربية سكانًا بسكانها البالغين نحو 85 مليون نسمة (سكان تركيا 75 مليونا) من مواهب الموقع وتنوع الموارد الطبيعية والبشرية، وتاريخها الحضاري، وتعدد عناصر القوة الناعمة لديها، ما يجعلها مؤهلة لأن تحقق خلال فترة قصيرة، ما حققته تركيا فيما لو تبنت نموذج الدولة التنموية، وفي القرنين الأخيرين تبنت مصر هذا النموذج مرتين، غير أن غلبة نموذج الدولة الأمنية قد نحّى جانبًا الاعتبارات التنموية حتى غدا نحو 40% من سكانها تحت خط الفقر، ورغم أن مصر نعمت بأطول فترة سلام في تاريخها المعاصر امتدت لأكثر من أربعة عقود فإنها غدت تحتل مراتب متأخرة في المقاييس المختلفة للتنمية سواء كانت التنمية البشرية أو التنافسية، فقد جاءت في المرتبة الـ 113 عالميا في مقياس التنمية البشرية 2011 بينما تركيا في المرتبة الـ 92، وهو المقياس الذي يتناول الصحة والتعليم والدخل، وجاءت في مقياس التنافسية 2011-2012 في المرتبة رقم 94 بينما جاءت تركيا في المرتبة رقم 59 وفي داخل هذا القياس تأخر ترتيبها كثيرًا في عنصر المتطلبات الأساسية الذي يشمل الصحة والتعليم الأساسي والمؤسسات والبنية الأساسية إلى المرتبة الـ 99 عالميا وجاء ترتيبها في ممكنات الكفاءة في المرتبة الـ 94، وتشمل هذه الممكنات التعليم العالي والتدريب وكفاءة أسواق العمل والسلع والتمويل والجاهزية التكنولوجية.
وإذا كانت الإرادة السياسية والبنيان المؤسسي القوي ودولة القانون هي عناصر تمثل عنق الزجاجة في نموذج الدولة التنموية المنشود في مصر والعالم العربي، فإن مفتاح هذا النموذج هو الموارد البشرية، وهنا يأتي إصلاح النظام التعليمي ومنظومة الثقافة والقيم كأحد أهم أولويات الاستنهاض، وهذا الإصلاح التعليمي والثقافي يعلي من شأن التعليم الفني والتدريب والتفوق في مجالات الرياضيات والعلوم الطبيعية والبحوث التطبيقية، ويربط مخرجات النظام التعليمي باحتياجات سوق العمل، كما يربط المؤسسات البحثية في الجامعات والمعاهد بالصناعة، ويعلي من شأن ثقافة احترام القانون وثقافة وقيم الإنتاج والابتكار والعمل والادخار والتحرر من الفساد على حساب الثقافة الاستهلاكية وثقافة الفساد والتربح.
إن استقراء تجربة الصعود في كوريا وماليزيا وتركيا يبين لنا أن النهضة التعليمية من قبل (بارك شونج هي) في كوريا ومهاتير محمد في ماليزيا ورجب طيب أردوجان في تركيا كانت مقدمة أساسية لإمكانية انتهاج التصنيع المتوجه إلى التصدير، وإن إصلاح النظام التعليمي يمكن صانع القرار من الإصلاح الإداري، وأن يضع يده على ممكنات الكفاءة التي بها يحصل من موارده الطبيعية والبشرية على أعلى عائد ممكن، بما يكفل له مراكمة معدلات عالية للنمو الاقتصادي، ومصر لديها أكثر من 50% من كنوز العالم الأثرية، كما تتمتع بمناخ معتدل على مدى العام، وبها تنوع كبير من المواهب السياحية سواء كانت سياحة دينية أو ثقافية أو ترفيهية أو ملتقى مؤتمرات وأعمال، ولكن في أعلى سنوات ذروة السياحة بها لم يتدفق عليها من السياح أكثر من خمس ما تدفق على تركيا، ومرد ذلك سوء إدارة هذه الموارد، وغياب ثقافة التعامل مع السياحة كمورد مستدام، كما أن مصر لديها من الموارد الزراعية ما يكفل لها اكتفاءً ذاتيٌّا في العديد من عناصر الأمن الغذائي، ولكن الفساد الإداري أغمض العين عن التعدي على الأراضي الزراعية وتجريفها والبناء عليها، مما أدى الى إهدار الموارد الزراعية حتى أصبحت مصر أكبر مستورد قمح في العالم، وفيما كانت مصر حتى عهد قريب رائدة إقليميا وعالميا في صناعة الغزل والنسيج والملابس الجاهزة، ولكن تراجعت هذه الصناعة نتيجة سوء الإدارة السياسية للقطاع الصناعي في مصر عمومًا الذي تحول إلى صناعة تقوم على التجميع في أغلبها، وهو نوع من الصناعة ذو تأثير تنموي محدود يخدم الاستيراد أكثر مما يخدم
إن تركيا «أردوجان» رأت في مصر فرصة انطلاقها إلى إفريقيا، وهذا كان حرصًا على زيارة مصر، وهي تبحث عن طريق بعد ثورة يناير ,.2011 بينما يوفر الموقع لمصر اتصالاً مع عالمها العربي والإسلامي والإفريقي والمتوسطي، ويمكنها من تبادل مزايا هذا الموقع مع ما لدى تركيا من اقتراب إلى دول الاتحاد الأوروبي والبلقان وروسيا واسيا الوسطى، ليس فقط في مجال تسويق المنتجات الصناعية والزراعية ولكن في مضاعفة التدفق السياحي، وعلى مصر أِن تستلهم من التجربة التركية وقبلها تجربة النمور الاسيوية أن المكانة الإقليمية ودور الدولة في محيطها يبنيان على تبادل المصالح أكثر مما يبنيان على تاريخ قديم ودور سابق، فليس معنى أن مصر كانت ملهمة ومساعدة لحركات التحرر الوطني في البلدان الافريقية أنها أصبحت رائدة في إقليمها كقاعدة مسلم بها، فما هي المصالح التي تجنيها هذه البلدان حاليا من علاقتها مع مصر؟ وهنا، فإن نموذج الدولة التنموية يمكن مصر من الكثير من هذه المصالح سواء من حيث إمداد هذه البلدان بالخبرات الفنية أو المساعدة على بناء مشروعات التنمية فيها أو على صعيد الاستثمارات والتجارة المتبادلة.
ورغم أن تركيا ليست دولة نفطية فإنها نجحت في استخدام موقعها لتكون معبرًا لأكبر شبكات الغاز والنفط التي تخدم المنتجين والمستهلكين في قارتي آسيا وأوروبا، وقد قطعت مصر شوطًا في هذا الاتجاه عبر خط سوميد ولديها قناة السويس، إلا أنه يمكنها أيضًا أن تصبح أكبر معابر الغاز والنفط الإفريقيين للمتوسط وأوروبا، كما تستطيع مصر عبر الالتحاق بشبكة سكة حديد الحجاز التي ستربط الخليج العربي بتركيا، وعبر إنجاز مشروع الجسر العربي بينها وبين السعودية، أن تصبح أكبر رابط إقليمي بين القوى الاقتصادية الكبرى في المنطقة، وكما أنه لدى تركيا مشروع تنموي ضخم، وهو مشروع جنوب شرقي الأناضول الذي يضاعف من إمكانياتها الزراعية والصناعية، فإن لدى مصر مشروعا تنمويا عمرانيا ضخما في شبه جزيرة سيناء يضيف إلى مساحتها الزراعية نحو 400 ألف فدان، ويستوعب أكثر من 3 ملايين نسمة، غير أن الرابط والممكن من إنجاز كل هذه المشروعات يظل هو العنصر البشري، وتظل النهضة التعليمية المفتاح الرئيسي لهذا الإنجاز.