شرق و غرب
خبايا الموقف الروسي من الأزمة السورية
تاريخ النشر : الخميس ١ مارس ٢٠١٢
لقد تجلت الخلافات الحادة في مجلس الأمن الدولي بشأن الموقف من الأزمة السورية الطاحنة، الأمر الذي جعل كل الأضواء تسلط على روسيا. لقد راح المحللون والساسة الغربيون يتساءلون على مدى الأيام والأسابيع القليلة الماضية عن الأسباب التي تجعل سلطات الكرملين تتعنت في الدفاع عن نظام بشار الأسد رغم أن مستقبله السياسي بات على المحك وقد ينهار بين اللحظة والأخرى بعد أن ضاق عليه الخناق عربيا ودوليا أكثر من أي وقت مضى.
هناك ثلاثة أجوبة تتردد كثيرا في الرد على مثل هذه التساؤلات وهي كالتالي:
1 - إن روسيا متشبثة بمصالحها التجارية والميركانتيلية، وخاصة منها صفقات السلاح التي ظلت تبرمها مع نظام دمشق على مدى العقود الماضية. إن الجشع الروسي القصير المدى والعديم البصيرة والرؤية هو الذي يجعل اليوم سلطات موسكو تأبى أن تربط الصلة مع الأطراف التي قد تحل محل بشار الأسد في دمشق من أجل الحفاظ على مصالحها المستقبلية.
2- إن الروس يتعاطفون بطبعهم مع الأنظمة الدكتاتورية، الأمر الذي يجعلهم يكنون رفضا غريزيا لكل ما يشم منه رائحة الثورة.
3- إن سلطات الكرملين تريد فقط أن تسبب أكبر قدر ممكن من المشاكل أمام الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
لا شك أن بعض العناصر الواردة في هذه التفاسير الثلاثة موجودة فعلا ضمن الدوافع التي تحرك سلطات الكرملين وتجعلها تتخذ مثل هذه المواقف، غير أن نظرة معمقة عن قرب تجعلنا ندرك أن الأمور أكثر تعقيدا وتشابكا.
إن ذلك الرأي الذي يعتبر أصحابه أن روسيا إنما تحكم بالإعدام على مصالحها التجارية المستقبلية من خلال رفضها تغيير موقفها يبدو مقنعا، غير أنه قد لا يصمد أمام حقيقة الواقع. لنتذكر جيدا الحالة الليبية. لقد فاجأت سلطات الكرملين الكثيرين عندما أبدت عدم اعتراضها في مجلس الأمن الدولي على تبني قرار يخول التدخل العسكري الغربي، الذي أفضى في نهاية الأمر إلى قلب نظام الحكم في طرابلس ومقتل العقيد معمر القذافي في الظروف التي نعرفها جميعا.
بعبارة أخرى أكثر وضوحا، لعبت سلطات موسكو دورا كبيرا في انتصار الثوار الليبيين، لكن ما إن وصل المجلس الانتقالي الليبي إلى السلطة حتى أعلن إلغاء كل الصفقات التي كان نظام العقيد القذافي قد أبرمها مع كل من روسيا والصين، بدعوى أن هذين البلدين لم يبديا أي تعاون في المعركة ضد الدكتاتورية والاستبداد.
إن الحالة السورية لا تختلف في شيء عن الحالة الليبية بل إن أوجه الشبه كثيرة، حتى إذا ما قررت روسيا تغيير موقفها الآن فإن أي حاكم جديد (علما بأنه تصعب معرفة الخليفة القادم لبشار الأسد في حالة سقوط نظامه) لن يقبل بالإبقاء على علاقات الشراكة مع روسيا التي سينظر إليها سنوات عديدة قادمة على أنها حليفة متواطئة مع الدكتاتور السابق. إذاً روسيا ليس لها ما تخسره في نهاية المطاف.
إن العلاقات بين روسيا والدول العربية ؟ التي تصطف اليوم في أغلبها ضد نظام بشار الأسد ؟ تمثل سببا آخر جوهريا تستند إليه سلطات موسكو في موقفها، فقادة الدول العربية الرئيسية التي تحدد قرارات جامعة الدول العربية وتسهم في تشكيل الرأي العام العالمي تجاه الأزمة الأزمة السورية هم في نهاية المطاف أناس عمليون ويتمتعون بقسط كبير من البراجماتية، فإذا رفض الطرف الآخر الخضوع وتقديم التنازلات فإنهم سيطرحون الاقتراحات الجديدة.
لنتكلم بكل صراحة. إن تدهور النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط دخل مسارا لا رجعة فيه. إنه المصير المحتوم الذي لن تفلت منه روسيا مهما فعلت من أجل الحفاظ على مواقعها التي باتت قليلة. إن وجود روسيا اليوم في منطقة الشرق الأوسط إنما يعود الفضل فيه إلى الإرث الذي ورثته عن الاتحاد السوفيتي الذي طواه التاريخ وأصبح أثرا بعد عين. رغم أن هذه العلاقات وهنت وضعفت كثيرا بسقوط الاتحاد السوفيتي فإن هذه الروابط لاتزال قائمة إلى حد ما. لكن مع اختفاء قدامى القادة العرب الذين وصلوا إلى الحكم في ظل الاتحاد السوفيتي فإن الأسس التي قامت عليها تلك العلاقات لن يبقى لها أي أثر يذكر. إذا ما سقط نظام بشار ألسد وحل محله نظام معاد لموسكو فإنه لن يبقى لروسيا بذلك أي زعيم عربي مؤيد لموسكو في منطقة الشرق الأوسط، علما بأنه لا يوجد اليوم أي سبب يجعل سلطات الكرملين تأمل أن تعيد إرساء علاقات قوية ومستقرة مع الحكام العرب الجدد.
نحن نظل غير ملمين بالأولويات لهؤلاء القادة العرب الجدد في منطقة الشرق الأوسط لكن من الواضح أن روسيا غير مدرجة في صدارة أولوياتهم.
لا شك أن الدوائر العسكرية وأصحاب المصالح المرتبطة بصناعة السلاح في موسكو تريد أن تستغل الوضع الراهن في سوريا وتستفيد من نظام دمشق الذي يجد نفسه محاصرا من كل جهة غير أن مثل هذه السياسات لا تشرف في النهاية أي أحد في روسيا. هناك امور أخرى أكثر نبلا من بيع السلاح لدولة تنزلق كل يوم في أتون الحرب الأهلية وإن كانت غير متكافئة، غير أن مثل هذه السياسات التي تنتهجها سلطات موسكو تنم عن بعض عقلانية، فروسيا تقول إنها ليست الوحيدة التي تسلح أطراف الصراع في سوريا، كما أنها تعتبر أن الأطراف التي تقول إنها تعارض نظام بشار الأسد بشكل سلمي أصبحت ترد على «نظام دمشق الدكتاتوري» بلغة القوة والسلاح وهي تزيده كل يوم إرباكا وتخلط أوراقه.
إن التباين في تفسير ما يجري الآن في داخل سوريا يمثل في حد ذاته مادة دسمة لتأجيج التجاذبات في العلاقات الدولية، فصورة السوريين الذين يتحدون نظام بشار الأسد الدكتاتوري والبشع هي ذاتها الصورة التي تستقطب كل الأنظار في الغرب وتتصدر كل وسائل الإعلام العربية التي تستخدمها من أجل إذكاء الحملة الإعلامية ضد بشار الأسد.
أما في روسيا فإن قلة فقط تصدق تلك الصور، بل إن الكثير من الروس يتحدثون عن نظرية المؤامرة وهم يعتبرون أن ما يحدث في سوريا يدخل في إطار عملية سرية أمريكية محبوكة مع اعترافهم في الوقت نفسه بأن الوضع الحالي في سوريا بالغ الصعوبة والتعقيد وأنه قد يصعب الآن إنقاذ نظام بشار الأسد الذي وصل إلى نقطة اللاعودة في تعامله الدموي مع شعبه. يقول هؤلاء إن الوضع في سوريا كان دائما معقدا، وان هناك أسبابا وعوامل حقيقية وحالة من الاحتقان الحادة التي كانت دائما تؤذن بنشوب مواجهة دامية بين الأقلية العلوية الحاكمة ؟ التي ينتسب إليها بشار الأسد نفسه ؟ وأغلبية السكان الذين يناهضون نظام دمشق. إذا ما حدث التدخل بعد ذلك في سوريا فإن ذلك يؤدي إلى تعميق الصراع الجيوسياسي والاستراتيجي بين الأنظمة السنية العربية من ناحية والنظام الثيوقراطي الشيعي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ترى في سوريا جبهتها المتقدمة وذراعها الطويلة والرئة التي تتنفس بها طهران ويتنفس بها حزب الله اللبناني.
إن تدخل الأطراف الخارجية في حرب أهلية داخلية ذات أبعاد دينية وجيوسياسية يمثل ظاهرة معروفة ومألوفة عبر التاريخ، غير أن القوى العظمى كانت دائما تميل إلى المجازفة بالتدخل رغم علمها بأن ذلك يعود عليها بعواقب وخيمة. لذلك لا ترى روسيا اليوم أي سبب يدعوها إلى إضفاء الشرعية على مثل هذه التدخلات الخارجية.
من الواضح أن الموقف الروسي «المتعنت» من الأزمة السورية يستند إلى سابقة ماضية، فقد استوعبت سلطات الكرملين الدرس مما حدث قبل سنة من الآن، عندما قررت الامتناع عن استخدام حق الفيتو مما سمح لمجلس الأمن الدولي بتبني قرار يخول التدخل العسكري في ليبيا. إن الدوافع الحقيقية وراء ذلك التصويت لم تتضح بعد. لقد كانت تلك الحالة الوحيدة حتى الآن التي وافقت فيها روسيا على تدخل دولي في الشؤون الداخلية لدولة من دول العالم.
تعتبر روسيا أن العملية التي شرعتها منظمة الأمم المتحدة باسم حماية السكان المدنيين قد تحولت بسرعة إلى عملية كلاسيكية لقلب النظام الحاكم بمشاركة فاعلة من حلف الأطلنطي وبعض الدول العربية الأخرى. كان ذلك هو الدافع الأساسي الذي جعل وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يتخذ ذلك الموقف حيث إنه قال: إن روسيا لا تستطيع أن تمنع التدخل العسكري غير أنها ستفعل كل ما وسعها حتى تحول دون إضفاء الشرعية على عملية التدخل الخارجي، وتحديدا في سوريا.
إن الموقف الروسي المعارض لأي تدخل في سوريا لا يرتبط بالمصير المأساوي الذي انتهى إليه العقيد معمر القذافي ونظامه بقدر ما يرتبط باقتناع روسيا بأن الغرب قد تلاعب بها وخدعها في مجلس الأمن الدولي، فهي تعتبر أن الاتفاق حول ليبيا كان يرمي إلى تحقيق أهداف معينة غير أن ما تحقق على ارض الواقع جاء مختلفا كل الاختلاف.
إن المواجهة في مجلس الأمن الدولي حول الأزمة التي يواجهها نظام بشار الأسد ستتواصل من دون هوادة بين روسيا من ناحية (مدعومة بالصين) والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية ثانية، حتى يقرر أحدهم ؟ مرة أخرى ولن تكون الأخيرة ؟ أنه يمكن الاستغناء عن موافقة منظمة الأمم المتحدة التي أصبحت تعاني الفوضى في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية المتفاقمة.