أفق
تروتسكي والثورة الدائمة (2-2)
تاريخ النشر : الجمعة ٢ مارس ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تعودُ أفكارُ تروتسكي عن الثورة الدائمة الى اضطرابِ أفكارِ الاشتراكية عن المستقبل البشري.
فالثورات الغربية التي ظهرت في أوروبا الغربية وشكلتْ عالمَ الحداثة المعاصر وقادت التحولات البشرية في هذا العصر لم تحل مشكلات الإنسانية، وجلبت استعماراً نهبَ الكرةَ الأرضية، وفجرتْ حروباً بين الدول الغربية المتصارعة حول الغنائم وكانت هي المستعمرات وشعوبها.
وبالتأكيد سوف تكون هذه التجربة مرفوضة، وكان الرفض يتجسد بكلمة الاشتراكية كما يتجسد بشكل الاسلام أو المسيحية عند شعوب أخرى، تعبرُ بأديانها عن رفضها الالتحاق بهذه التجربة القائدة غير مميزين بين التراث الديمقراطي الإنساني للغرب القائد لتجربة البشرية المعاصرة، وبين تجربةِ الغرب الاستعمارية.
ولهذا كانت الاشتراكية الديمقراطية في روسيا، لأن المسيحية لم تكن خياراً وهي معبرة عن القيصرية كذلك، ولم توجدْ تجاوزاً فكرياً.
هذه الاشتراكية كانت معبرة عن الفئات الصغيرة الاجتماعية التي وجدت في الغرب حضوراً وإمكانات متعددة رغم اختلافها فيه، لكن هذه الفئات كانت مخنوقةً في روسيا القيصرية.
في الغرب وجدت حضورَها وارتفاعها للسلطات وإمكانية التغيير المتدرج، فتداخلتْ مع الطبقاتِ الحاكمة، وتأثرتْ بها وصعدتْ في صفوفها عبر السياسة والاقتصاد والثقافة، ومن هنا فإن الاشتراكية لديها تدريجية إصلاحية بعيدة المدى، فيما لم تكن هذه الخياراتُ موجودةً لدى الفئات الوسطى الصغيرة الروسية، ذات القدرة على الصراع والتأليف والتضحية والقفز بين المعسكرات وركوب الموجات التي تعيش ظروفاً مأوساوية كذلك كما هي حال تروتسكي نفسه، وفي ذات الوقت تغدو إمكاناتُ العلومِ الاجتماعية وقدرات الناس العقلانية محدودة.
ويبدو تروتسكي نموذجياً في التعبير عن هذا الرفض للغرب، الذي يعني لديه الاستمرار في رفض الديمقراطية، وتفضيل الدكتاتورية كطريق ثوري، ولهذا فإن الثورات الرأسمالية الديمقراطية في الغرب يجب أن تواصل النمو لتكون ثورات اشتراكية في تحريضه، فيما الثورة الروسية يجب أن تتحول من ثورة رأسمالية في فبراير 1917 إلى ثورة اشتراكية في العام نفسه.
حرقُ المراحلِ التاريخيةِ هذه يتكونُ لدى تروتسكي كقوانين أزليةٍ للتاريخ البشري المعاصر، فالظروف الاقتصادية والقومية المختلفة لكل شعب، وظروف الشرق المتخلفة عن ظروف الغرب المتقدمة، لا تعني شيئاً له وسط الصراعات الاجتماعية المتماثلة والمتقاربة، فهي كلها تُحلُ بمفتاحٍ واحدٍ هو الثورة الدائمة.
عدم رؤية أن هذه الاشتراكية كما تبدت في الطفولة الروسية السياسية، عبر غياب التحليل بكونها نزعات مسقطة على الواقع، وكون التحول من ثورة رأسمالية قاصرة وعاجزة عن القيام بإصلاحاتٍ اقتصادية واجتماعية عميقة حين انفجرتْ بشكلٍ شعبي بسبب مجزرة الحرب العالمية ونقص المواد الغذائية وانفجار المجاعات، ثم تحولها لانقلاب عسكري في أكتوبر من ذلك العام التاريخي الكابوسي توجه لحل هذه المهام بأسلوب القوة الذي فُرخَ على مدى سنوات، هي كلها تدورُ في ذات الأسلوب الرأسمالي.
في الثورةِ الأولى قام التحولُ عبر فئات المناشفة والرأسماليين وقوى الفلاحين الأغنياء الذين لم يناضلوا عبر عقود لتصعيد هذا النموذج الديمقراطي، فخطفهُ منهم البلاشفةُ وحولوهُ إلى نظامٍ عسكري شمولي لرأسماليةِ دولةٍ منتجة موزعةٍ للأراضي على الفلاحين لكن لم تستطع توفير السلام بل انفجرت الحربُ الأهلية المروعة وذهب الملايين ضحايا لها.
لم يستطع تروتسكي أن يدرك قانونية التشكيلة الرأسمالية لكنه أحسّ بضرورة الثورة العالمية وأن تجاوز الرأسمالية لا يتم إلا بشكل بشري كوني، وأن أي ثورة في الشرق سوف تكون رأسمالية دولة وهو ما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكنه لم يدرك أن ذلك بحاجةٍ الى وقتٍ طويل حتى تنتشر الرأسمالية المتطورة في كل بقاع الأرض، لكن الحل الذي طرحه هو انتحار، حيث اقترح نشر الثورة في كل مكان، وهو أمر يقود لسلسلة من الحروب الكارثية.
هذه التجربة مهمة لقوى النضال العربية خاصة وهي تواجه ذات الأسئلة والمصير الحائر للثورات، وحيث تلعب الرومانسية الدينية الدور الأكبر، إذا غابتْ قراءةُ قوانين التشكيلةِ الرأسمالية، كما غابتْ عن تروتسكي وراح يحولُ السياسةَ إلى مغامرات عسكرية ويصعد قوى الجيش والبيروقراطية ويضع مقدرات الشعوب في ايد قليلة في المكتب السياسي، حتى قامت الدكتاتورية الشخصية لستالين لتطرده ثم تقتله في نهاية المطاف.