أفق
صعودُ وهبوطُ الأفكارِ التحديثية
تاريخ النشر : السبت ٣ مارس ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تتمكن الأفكارُ الدينية المحافظة من الصعود لعدم قدرة الأفكار التجديدية على التطور والتغلغل في البناء الاجتماعي، حين تعجز أن تكوّن لها حضوراً بين الرجال والنساء.
في العصر العباسي والعصر الراهن نلاحظ هذا التماثل، فحين عجزتْ أفكارُ الفرق عن تغيير العلاقات المتخلفة بين الرجال والنساء، ولم تستطعْ أن تغيرَ واقع المزارعين الذين وقع عليهم العبءُ الأكبرُ في توفير الخراج، فشلت هذه الفرق وتراجعت ولم تفدها الأعمالُ العنيفة أو القيام بانقلابات في جماعاتها.
وكونها فرقاً يحدد طابعها القبلي، حيث سيد القبيلة هو المتنفذ، وهذا ما ما جرى ويجري الآن.
في العصر الحديث انتفختْ الأحزابُ بالشعارات الحديثة لكنها مجرد شعارات، فاستمر الرجال في إدارة السياسة والبيوت، ولم تستطع شعارات المساواة أن تدخل حيز التطبيق، فالأحزاب ذكورية والبيوت تهيمن عليها الذكورة، والتقدمي تقدمي في المقهى لكن ليس في البيت.
ورغم ضخامة التحولات والانقلابات العسكرية لكنها لم تتغلغل في الأبنية الاجتماعية، الانقلابيون لا يختلفون عن الفرق الإسماعيلية والقرمطية والزيدية والسنية في تحريك سطوح الحياة الاجتماعية، وإثارة غبار سياسي كثيف، لكنهم في مسائل الوجود الاجتماعي وعلاقات الرجال بالنساء والإقطاع بالفلاحين والعقول بالنصوص الدينية، والدول بالشعوب يظلون كما كان السابقون.
وكان الانقلابيون يستطيعون تحريك الحياة نظراً لسيطرتهم على بعض الموارد، لكن الموارد تنفد مع كثرة الانقلابات والحروب والصراعات، وتظهر مراكزُ مواردٍ جديدة في البلدان الصحراوية والقروية، وتستطيع هذه البلدان أن تستغل مورادها هي الأخرى في تعزيز ثقافتها المذهبية المحافظة، وما كان من انهيار في العصر العباسي للفرق (الثورية) المعارضة واستبدالها بالفقه المحافظ والفلسفة اللاعقلانية وتقطيع أجسام الدول العربية الإسلامية الكبيرة حدثَ في عصر الانهيار الثاني الراهن، مع إختلاف طبيعة هذا الانهيار حيث ترافق مع ثرواتٍ نفطية، وعولمة رأسمالية واسعة، فتزعزعُ الدولِ كان داخلياً، وحدثت شروخٌ كبيرة في الكيانات المركزية، وتفاقمَ تدهور أحوال النساء فاتسعت ظاهرة الجواري بأشكالٍ (تحديثية) وتراجعت الإصلاحات الزراعية البسيطة التي حدثت في بعض الدول وعاد بعض الأراضي الموزعة سابقاً على الفلاحين، وأصبح الرجال في حريات إجتماعية أكبر.
وتدهورت أنواعُ الآداب والفنون بطغيان الفنون الهابطة، رغم استمرار وتطور الآداب والفنون المعبرة عن واقع الناس، ولهذا فإن الأجناسَ التعبيرية والأفكار المتخلفة التي كانت مواكبة لعصور التدهور عادتْ للظهور ثانية، وغدت التنمياتُ في الأشكال والعمارة الباذخة من جهة وتصاعدت الأزمات السكانية واختناق المدن من جهة أخرى.
لم تستطع الشعوبُ العربية والإسلامية أن تجيب مرةً أخرى عن تحديات الحداثة، فالعلاقاتُ بين الطبقاتِ السائدة والطبقات المسودةِ ظلتْ كما كانت عبر القرون، وأشكالُ الحكمِ نائيةٌ عن القواعد، والرجالُ مسيطرون والنساء مسيطرٌ عليهن، والأريافُ تغرقُ في أزماتِ الملكيات الكبيرة والتخلف التقني وتدهورت أسعارُ المحاصيل في طبعات جديدة من أزمات الأغذية في العالم، والقطاعاتُ العامةُ التي كانت ذروة تطور المنطقة خلال الزمن السابق توقفت عن التطور أو بيع بعضها.
وطرحت الثوراتُ العربية إمكانية الخروج المحدود من هذا النفق التاريخي التي تسير فيه الأمةُ العربية خاصةً خلالَ قرون طويلة، وكأن ثمة بوادر لعلاقاتٍ جديدة بين الطبقات والأجناس والدول والشعوب، لكن ما هو مطروح وغالب هو فقط في السياسة العامة، والديمقراطية غدت شعاراً في الميادين لا في البيوتِ وأجهزةِ الحكم والحقول، وتحولها لتطبيق يحتاجُ إلى ثقافة تنويرية ديمقراطية تعاونية واسعة بين التيارات والمؤسسات كافة، حيث ينبغي تصحيح كل شيء عبر القوانين والبرلمانات وصراع الأفكار والعقول لا صراع الأيدي والأجهزة والسلاح، والتغيير يأتي تراكمياً متدرجاً جماعياً لا انقلابياً فوقياً، وثمار التحول تؤثرُ وتقدم حياةَ الجميع لا أقليات تفوز بالكراسي والنفوذ.
على مدى تقدير الأفكار الحديثة للماضي المضيء ونقد المعتم فيه، وتوسيع حقوق الأغلبيات وأوضاعها المادية والثقافية وتعاون مختلف وجهات النظر لتطوير الواقع كل من رؤيته، واحترام الحريات للتيارات كافة، يمكن للعرب أن يعبروا هذا النفق الطويل.