إقامة سوق عربية مشتركة للطاقة.. بين المتطلبات والإيجابيات
تاريخ النشر : الأحد ٤ مارس ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
على ما يبدو أن شيوع فكرة التغيير والاحتجاج وإصلاح الوضع القائم أصبح سمة المنطقة العربية في الوقت الحالي، فكما نهض بعض الشعوب العربية ضد أنظمتها الحاكمة لتغييرها، نهضت أيضًا المؤسسات لعربية لتحريك حالة الجمود الذي أصاب العمل العربي المشترك، وبقي حبيس الأدراج سنوات ضمن كواليس القادة العرب، ولكن في ظل وصول معدلات البطالة في العالم العربي إلى المستويات الأعلى والأسوأ في العالم لتتراوح بين 14 و20%، وهو ما تسبب في رفع عدد الفقراء إلى أكثر من 35 مليونا، بل يتوقع أن يصل عدد المتعطلين عن العمل خلال عام 2012 إلى نحو 30 مليون عربي، وهو ما يتطلب علاجها استثمارات هائلة لاستحداث 5 ملايين فرصة عمل سنويا، وذلك وفقًا لتقديرات منظمة العمل العربية، فلابد أن تكف الدول العربية وخاصة الخليجية عن الاعتماد على إيرادات سيادية تؤدي إلى انكشافها على الخارج، فقد تنعم البلدان العربية المصدرة للنفط مثلا بإيرادات جيدة العام الجاري، لكن ذلك سيعطل من حماستها لإجراء عمليات إصلاحية تؤدي إلى تحديث البنية الهيكلية لاقتصاداتها وتعزيز قدرتها على تنويع القاعدة الاقتصادية.
ومن ثم، فإن الاقتصاد العربي بحاجة أكثر من أي وقت مضى لتنفيذ استراتيجية التعاون الاقتصادي العربي المشترك التي انبثقت عن مؤتمرات القمة العربية السابقة، التي صدرت عنها قرارات بإقامة المشاريع الاستراتيجية في البنى التحتية وتطوير التبادل العربي البيني وإزالة عوائق النقل والإجراءات البيروقراطية لتنفيذ المشروعات وتوطين الاستثمارات، وصولاً إلى إقامة كيان اقتصادي عربي متين، وفي ظل أهمية دور المؤسسات الإقليمية العربية في تطوير العلاقات الاقتصادية العربية، خاصة علاقات التكامل الاقتصادي العربي، كلف الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي التابع لجامعة الدول العربية منذ أيام شركة شيزي للشرق الأوسط - التي تعد من أبرز شركات الاستشارة الفنية بالعالم في ميادين ربط شبكات الكهرباء وتوزيعها وتخزينها - بإجراء دراسة جدوى حول إقامة سوق موحدة للطاقة من المملكة المغربية في الغرب إلى سلطنة عمان في الشرق، وذلك في إطار سعي الصندوق لوضع خطة لدمج شبكات الغاز والكهرباء في عشرين دولة عربية، بحيث تعمل الدراسة على تحديد البنية التحتية الرئيسية اللازم تطويرها لتحقيق أقصى درجات الاستفادة من موارد الغاز للدول المعنية بالمشروع.
وسوف توفر هذه السوق العديد من الفوائد للدول العربية على المستويات كافة تعجز الدولة بمفردها أو خطوط الربط بين دولتين فقط عن تحقيقها، فمن الناحية الفنيــة، ستعمل السوق على انخفاض احتمالية فقد التغذية والمساعدة المتبادلة في حالات الطوارئ عند حدوث عطل، وهو ما سيزيد من الاستقرارية الديناميكية للنظام، حيث تلحظ اتفاقيات الربط الحالية توريد الطاقة من دولة إلى دولة، إذا توافر الفائض، كما تلحظ تمرير الطاقة الكهربائية عبر شبكة وسيطة إذا سمحت ظروف هذه الشبكة بذلك، كما ان خطوط الربط بين دولة ودولة هي ضعيفة بالمقارنة مع قدرات الشبكات، وتؤدي إلى محدودية في قدرات التبادل.
أما من الناحية الاقتصادية، فسوف تعمل هذه السوق على تقليل الحاجة إلى إنشاء محطات إنتاج جديدة داخل البلد الواحد، وتخفيض الاحتياطيين الثابت والمتغير لكل نظام على حدة، وذلك نظرًا للاعتماد على احتياطي النظام الموحد وتخفيض كُلف التشغيل والصيانة، نظرًا لإنشاء محطات الإنتاج في الأماكن التي تصل تكاليف الإنتاج فيها إلى الحد الأدنى، ومن ثم يقوم بتوريد الطاقة الرخيصة من منطقة وجودها إلى منطقة أخرى تكون فيها أكثر كلفة، هذا إلى جانب العوائد المالية التي تحصل عليها دول العبور. كما أن السوق تجعل هناك آلية أو صيغة تجارية، تتيح للمنتج عرض ما لديه من فائض للآخرين، وتمكن الراغب في الشراء من معرفة ما يتوافر من فائض، لذلك تبرز الحاجة إلى سوق ديناميكية لتجارة الطاقة، فضلاً عن أنها تشجع الاستثمار في قطاعات الكهرباء واستقطاب رؤوس الأموال إلى المنطقة، والمساهمة في إتاحة فرص إنتاج الطاقة الكهربائية في الدول المنتجة للنفط والغاز وتخفيض الكلفة، والحصول على الفوائد الاقتصادية المرجوة من الربط الكهربائي.
أما بالنسبة للفوائد البيئيــة، فهي سوف تقلل من الانبعاثات الغازات الضارة باستخدام الإنتاج الأكثر كفاءة واختيار أفضل المواقع لإنشاء محطات الإنتاج. وبطبيعة الحالة، فإن نجاح هذه السوق سوف يحقق فوائد اجتماعية وسياسية وقانونية، من خلال إيجاد أجواء التعاون والحوار ووجود مصالح اقتصادية مشتركة. ومن الجانب القانوني فإن هذه السوق سوف توفر الفرص لجعل القوانين المحلية تتواءم مع القانون الدولي، والعمل على توافق القواعد التنظيمية لشبكات الدول المرتبطة.
ولحسن الحظ فإن المنطقة العربية يتوافر بها العديد من الإمكانات المساعدة لإنشاء سوق لتجارة الطاقة، مثل وجود أرضية سابقة من اتفاقيات الربط الكهربائي؛ حيث يعد ربط البنية الأساسية، أي إيجاد البنية الأساسية للتكامل الاقتصادي خطوة في إطار تحقيق تشابك المصالح، الذي يعد من أهم ضروريات تفعيل السوق المشتركة، فهناك ثلاثة روابط كهرباء أساسية في المنطقة بالفعل، هي: الربط الثماني بين (مصر - الأردن - العراق - سوريا - تركيا - الأردن - فلسطين -ليبيا)، وقد تم إنشاؤه في إطار الاتفاقية التجارية العامة ATG الموقعة في عمان عام 1993، التي ركزت في اتفاق الأطراف الموقعة على التعاون الكامل في تنفيذ الربط الكهربائي بين شبكات بلدانهم لتأمين المساعدة والمنفعة المتبادلة وتأمين التشغيل الاقتصادي بتبادل الطاقة الكهربائية الفائضة.
وهناك أيضًا الربط المغاربي بين (المغرب - الجزائر - تونس - ليبيا)، ولكنه يعمل بين المغرب والجزائر وتونس، ويعاني مشكلة فنية في الربط الليبي التونسي، أما الرابط الثالث فهو يربط بين دول مجلس التعاون الخليجي لدول الخليجي الست؛ حيث أنشئت شركة مساهمة مملوكة من قبل دول المجلس عام 2001 وتم ربط شبكات الطاقة الكهربائية في تلك الدول عن طريق توفير الاستثمارات اللازمة لتبادل الطاقة الكهربائية لمواجهة فقدان القدرة على التوليد في الحالات الطارئة، ومن أساسيات الربط الكهربائي لدول المجلس، مراعاة عدم المساس بموثوقية الأنظمة الكهربائية لدول الخليج العربية، واعتبار التخفيض وبنسبة لا تقل عن 50% من الاحتياطي لتلك الأنظمة، وأن تستفيد كل دولة من تبادل الطاقة بما لا يزيد على 50% من سعة أكبر محطة توليد للطاقة لديها.
ومن ضمن العوامل المساعدة في المنطقة على إقامة تلك السوق هو إمكانية الاستفادة من تحسين كفاءة الإنتاج وتطبيقات الطاقة المتجددة المتوافرة في المنطقة، فهناك خطط في المنطقة لإنتاج الكهرباء بقدرات كبيرة حوالي 6000 ميجاواط من طاقة الرياح و5000 ميجاواط من الطاقة النووية في مصر و4×1600 من الطاقة النووية في الإمارات العربية المتحدة، ويسعى المغرب إلى إنشاء أكبر مشروع طاقة شمسية حرارية في العالم قبل .2020
فضلاً عن وجود الدعم السياسي لهذه السوق؛ حيث نوقش هذا الأمر في عدة قمم عربية سابقة، كالقمة العربية في الجزائر 2005، التي تم خلالها تكليف مجلس الوزراء العرب المعنيين بشؤون الكهرباء بالتعاون مع منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لدراسة سبل الاستفادة من الغاز الطبيعي في الدول العربية في إنتاج الكهرباء وتصديرها. في حين تم في القمة العربية بالمملكة العربية السعودية 2007 إنجاز دراسة الربط الكهربائي العربي الشامل وتقييم استغلال الغاز الطبيعي لتعزيز دورها في إنشاء سوق عربية للطاقة الكهربائية.
وكان من ضمن قرارات القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية في الكويت 2009 ما سمي إعلان الكويت، الذي تضمن الإسراع في الانتهاء من مشروعات الربط الكهربائي العربي من دون عوائق، بما في ذلك تعديل ومواءمة واستحداث التشريعات الوطنية، والأطر التنظيمية ذات الصلة، فضلاً عن مطالبة الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بمواصلة توفير التمويل اللازم لتنفيذ مشروعات الربط الكهربائي العربي، وبالفعل وصل إجمالي مساهمته المالية في كل مشروعات الربط الكهربائي في المنطقة العربية إلى ما يناهز 678 مليون دولار، في حين بلغت الكلفة الإجمالية لتلك المشروعات مليارين و11 مليون دولار، كما وضع الصندوق آلية لتمويل تنفيذ هذه المشروعات على أسس تجارية بمشاركة القطاع الخاص.
وأخيرًا تكليف مجلس الوزراء العرب المعنيين بشؤون الكهرباء بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بوضع البرنامج الزمني وآلية التنفيذ لاستكمال مشروعات الربط الكهربائي العربي.
ولكن نظرًا لأن إنشاء سوق الطاقة يتطلب تجهيزات خاصة مثل: توافر خطط حماية، من خلال تقوية الشبكات الداخلية، وإنشاء مركز تحكم تنسيقي يتولى بالإضافة إلى جملة مهام فنية، القيام بمهام تجارية تتمحور حول حسابات التبادل للدول المصدرة والدول المستوردة ودول العبور، والتعرفات العائدة لذلك، إضافة إلى صياغة التشريعات التي تسهل الاستثمار في قطاع الكهرباء، وتتيح التفاوض بين الأطراف المتعاقدة في السوق من دون الحاجة إلى الموافقة المسبقة للسلطات السياسية على كل عملية.
ولتوفير تلك المتطلبات، فإن الأمر يتطلب إرادة سياسية؛ حيث تكمن المشكلة في عدم تشييد محطات الطاقة اللازمة، وعدم وجود المبادرة والإرادة عند المسؤولين للتخطيط لشبكة طاقة عربية مشتركة، وثمة تفشٍّ للفساد الواسع في قطاع الكهرباء في أكثر من دولة عربية، مما يؤدي بدوره إلى عدم التفكير جديا في مشاريع مشتركة مع دول مجاورة، ناهيك عن التخوف من قطع الكهرباء وإمدادات الطاقة من الدول المجاورة نتيجة الخلافات السياسية المزمنة بين الدول العربية.
إلى جانب ضرورة توافر دعم مالي كبير، ولهذا تفرض الأوضاع على البلدان الخليجية والعربية عامة، أن تواجه المعضلات الهيكلية في اقتصاداتها، وإذا كان العالم العربي قد شهد منذ وقت مبكر اشتداد الدعوة لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي الذي بمقدوره استنهاض الاقتصادات العربية المفتتة، التي لم يستطع أي منها تحقيق التقدم الاقتصادي، فإن الفرصة سانحة لهذا التكامل، في ظل انعدام الثقة بالاقتصادات الغربية، التي فقدت جاذبيتها بالنسبة لاستثمارات الدول النفطية، وخاصة أن علاقات التعاون الاقتصادي الخليجي العربي تحظى بالعديد من الفرص والإمكانات التي يمكن أن توجد تكاملا اقتصاديا فيما بينها يعزز تنفيذ هدف التنويع الاقتصادي، ويحد من الآثار السلبية للأزمات الاقتصادية الخارجية.
ومن ثم، فإن هناك ضرورة لتوجيه الاستثمارات الخليجية إلى المشاريع العربية المشتركة، بشكل يعطي التكامل الاقتصادي العربي الأولوية وإنهاء التبعية الاقتصادية وذلك بتطوير الهياكل الإنتاجية العربية كخطوة نحو تقليل الاعتماد على قطاع المواد الأولية الخاضع للاحتكارات الرأسمالية وتمهيدًا لتوفير الإمكانات اللازمة لإزالة القيود على حركة الاستثمار والتجارة وتحد من حرية انتقال رؤوس الأموال ورجال الأعمال، ولاسيما أنه في الظروف الراهنة فإن الانطلاق من اعتبار الوطن العربي ككل إطارًا عامٌّا لتحرك المقومات وفعلها هو ضروري عند التركيز في قضية التكامل، وذلك لأنه تتوافر في الوطن العربي سوق مناسبة، فالسودان يمكن أن يكون السلّة الغذائية للعالم العربي، ومنطقة الخليج العربي وليبيا هي مستودع النفط والطاقة للبلدان العربية والعالم، ومصر مركز الثقل في العمالة العربية، وسوريا أحد أهم مراكزها النباتية، ودول المغرب العربي سوق تجارية كبيرة.