الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


الأسبانُ كانوا عرباً

تاريخ النشر : الأحد ٤ مارس ٢٠١٢

عبدالله خليفة



تداخل التاريخان الأسباني والعربي بقوةٍ في العصر الإقطاعي الأخير، وكان العربُ قد احتلوا البلدَ الأوروبي الجميلَ وشكلوه حسب اقتصادٍ تحكّم فيه الغزو وتجميع ثرواتٍ طائلة من خلال الاستيلاء على ثروات عمل الشعوب الأخرى.
الغزو يعرقلُ تطور الأمم نحو التقدم ويشوهُ وجودَها ولن تستطيعَ أمةٌ غازيةٌ أن تكون حرة.
وفيما كان العربُ ينسحبون من احتلال أسبانيا ويدفعون الثمنَ الباهظ لذلك كان الأسبانُ يقلدونهم ويصيرونَ غزاةً ينهبون الأمم الأخرى.
خروجُ الأسبان لاحتلالِ العالم تشكّل من خلال سلطةٍ اقطاعيةٍ دينية متعصبة مقلدةٍ لأسوأ ما في العرب، بدلاً من أن يقلدوا تفتحهم وتقدمهم، بسبب التكاليف الباهظة التي دفعها الأسبان لاستعادة بلادهم تحت راية الكنيسة الكاثوليكية، فكرسوا تخلفاً عدوانياً سوف يدفعون ثمنه خلال قرون مثل العرب الذين كان عليهم أن يدفعوا ثمن الاحتلال والغزو لبلدان أخرى، راحت تنتفضُ عليهم وتطاردهم وتحاصرُ سواحلَهم وتغزوهم في عقرِ ديارهم أو تشكل عداءً تاريخياً لهم مازالوا يدفعون بعض ضرائبه. لكنهم تضعضعوا وتمزقوا واجتروا مآثرَ الماضي من دون ظروف الأسبان اللاحقة وفعلهم النضالي.
تقليد الأسبان للإقطاع العربي الغازي مارسوهُ بقوةٍ وفظاظةٍ هائلة في القارة المكتشفة حديثاً وقتذاك وهي أمريكا الجنوبية.
لقد وجدوا شعوباً (بدائية) مارسوا عليها كل أشكال الاستغلال والنهب الفظ، وقد قام بذلك بدايةً القائد بيزارو:
(أبحر بيزارو إلى الجنوب مع خيل ورجال مدرعين، فسقطت أمة الإنكا أمامه، قتل الحكام ونزع الحياة عن الهيكل الحكومي ثم جرى شحن الماس، والصفائح عن جدران المعبد، ورموز الشمس الذهبية، والتروس الذهبية، وأُجبر الشعب الإنكي المقهور على دخول المناجم تحت وقع السياط)، كأسٌ من ذهب، جون شتيانبك، الروائي الأمريكي صاحب نوبل.
كمياتٌ هائلة من الذهب والماس والثروات المنوعة توجهت لأسبانيا، فتخدرتْ من خلالها، وقامت بإفساد هذا الشعب الرومانسي الذي حررَ بلادَهُ وبشكلٍ ديني متعصب.
أسبانيا التي تفتحتْ في عصور الاكتشافات الجغرافية بدءًا من القرن الخامس العشر الميلادي، وأقامت أولَ امبراطورية لا تغيبُ عنها الشمس تمتد من الفلبين حتى جنوب أمريكا، كرستْ الإقطاعَ الديني والتعصبَ وبذخَ النخب العليا، فيما كانت الجماهيرُ العاديةُ تعيشُ في فقرٍ وتخلف. لقد كررتْ بشكلٍ مطولٍ عالمَ القرون الوسطى، الذي كان يأفلُ ويتحطم في دول أوروبية قريبة منها، خاصة في هولندا وإنجلترا.
وكانت الصراعات مع إنجلترا بدايةً لانهيارِ نفوذِها، وتحجرها التقليدي، ثم كان احتكاكها المنوع مع فرنسا المتجهة للتحديث والثورة التي لم تكن مثقلةً بهذه الإمبراطورية المتخلفة حينذاك، والتي غزتها وغيرتها، لكن أسبانيا ظلت متحجرة وميداناً للاتجاهات الرجعية في القارة الأوروبية فتغلغلت فيها الفاشية وعسكرت فيها عبر فرانكو هذه الجثة المتوجة لعصرٍ طويل من التدين المتعصب.
لا يمكن معرفة أسباب جمود أسبانيا الطويل من دون رؤية ذلك الإرث في فتح البلدان الفقيرة وانتزاع ثرواتها البسيطة وتشغيل جمهورها بشكل استرقاقي. لقد ربطتْ نفسَها باغلالِ الاستعباد المتخلف وهي تغزو وتكّون ثقافةً محافظة عدوانية.
كان التحجر التقليدي المطول في ظل تطورات تقديمة هائلة في القارة الأوروبية لابد أن يقود لاستقطاب يميني متخلف ويسار ديمقراطي، فاليسار المتطرف واليسار الفوضوي اللذان برزا بحدة في الحرب الأهلية الأسبانية كان لابد أن يُهزما ويخليا المكان ليسار ديمقراطي مختلف.
وهكذا فإن أسبانيا عبر نظام ديمقراطي بعد فرانكو استعادت بعض عافيتها الاقتصادية، ثم انطلقت بقوة وقد تحررتْ من الإرثِ الديني المحافظ والبنية الاجتماعية المدموغة به، وقد صارت إحدى الدول الرأسمالية المتقدمة لولا نزعة البذخ التي أغرقتها في أزمة المساكن والديون وجمدت وضعها إلى حين.
عكسَ الأسبانُ المصيرَ العربي بشكل مستقبلي، فهم مرآةُ العربِ ومنافسوهم وأصدقاؤهم في رحلة التطور الإنسانية المشتركة، راحوا يتخلون عن النظام التقليدي بعد هجوم أمريكا على مستعمراتهم، وثورات الشعوب اللاتينية، وأدى غياب المستعمرات وتأزم الحالة الاقتصادية مع زوال عمل العبيد في القارات البعيدة، إلى بدايات تحررهم من الميراث الإقطاعي، فتطوروا بفضل ذلك، فتوسعت الصناعة بشكل كبير، وتطورت الأوضاع الاجتماعية فغاب البذخُ الواسع ونزلت النساء بكثافة للصناعة، وتغلغلتْ الديمقراطية وتبدلتْ المركزية السياسية البيروقراطية وتعددت الأقاليم المستقلة، وصارت أسبانيا مثل جيرانها الذين نأوتهم طويلاً.
لكن العرب لم يتحرروا من أشباح الإمبراطوريات وتقاليدها وإرثها الاجتماعي بعد.